كثيراً ما مثّلت المادة المظلمة لغزاً حيّر العلماء وجعلهم يقفون مكتوفي الأيدي أمام معضلة سبر أغوارها. فهل يأتي التلسكوب هابل وعدد من أجهزة الرصد المتطوّرة الأخرى بأجوبة تشفي غليل العلم، وتشرّع الأبواب أمام فك رموز ذلك اللغز؟ العلماء يضعون نصب أعينهم فترة لا تتجاوز 5 سنوات لإنجاز المهمة

روني عبد النور
أوردت مجلة Monthly Notices of the Royal Astronomical Society في عددها الأخير أن التلسكوب هابل، التابع لوكالة الفضاء الأميركية ناسا، قّدم أدلة جديدة عن توافر المادة المظلمة قرب المجرّات الصغيرة. وجرى التوصّل إلى هذه النتائج من خلال مشاهدة التلسكوب لأعماق المجموعة المجرية Perseus. التجربة مثّلت مفاجأة للعلماء، إذ جرى تحديد عدد من المجرات الصغيرة، الهادئة الحركة وذات الشكل المستدير، ما يعني أنها ما زالت عصيّة على التأثيرات الخارجية. ويعني واقع هذه المجرات المعمّرة، التي بقيت بلايين السنين خارج تأثير أي قوة خارجية، أنها تقع تحت سيطرة مادة مظلمة كثيفة للغاية. ولم يكن في الإمكان دراسة المجرات الصغيرة بهذا القدر من التفصيل لولا الدقة الفائقة التي تتمتع بها كاميرا هابل. فرغم أن مشاهدات سابقة بواسطة التلسكوب الأرضي WIYN أشارت إلى سيطرة المادة المظلمة على المجرات الصغيرة، فإن المشاهدات الأرضية كانت بحاجة إلى صور هابل لقطع الشك باليقين.
يعتمد التلسكوب في عملية الرصد على كاميرا مسح متطورة توفّر صوراً عالية الدقة والجودة. وقد حدّد 29 مجرة صغيرة، من بينها 17 مجرة تُكتشف للمرة الأولى، في عنقود Perseus المجري الذي يبعد عن الأرض 250 مليون سنة ضوئية، والذي يُعدّ أحد أكثر العناقيد المجرية قرباً من الكوكب.
وكانت أبحاث، تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، قد كشفت أن المادة المرئية الموجودة قرب مجرة أندروميدا ليست كافية لفهم السرعة التي تدور بها النجوم حول مركز المجرة. إذ عندما جرى حساب سرعة تحرّك المجرة نظرياً تبيّن أنها أقل بكثير من السرعة الفعلية التي رُصدت. هنا، طُرح السؤال عن العامل المجهول الذي يسرّع المجرة، وجرى تصوّره كقوة شد جاذبية من جانب مادة خفية تمنع النجوم من التطاير في الفضاء مثلما تتطاير الحجارة تحت وطأة دوران عجلات السيارات في الطرقات.
المعروف عن المادة المظلمة أنها شكل غير مرئي للمادة، يمثّل الجزء الأكبر من الكتلة التي يتألّف منها الكون (تمثّل الكتلة المرئية 4 في المئة فقط). وقد سعى العلماء إلى تقفّيها ومراقبة أثرها الجاذبي على أشكال المادة العادية الأخرى، على غرار النجوم والغازات والغبار.



الكلام عن المادة المظلمة يعود إلى نحو ثمانية عقود خلت، عندما شبّهها عالم الفضاء فريتز زويكي من جامعة كالتيك بنوع من الغراء الذي يحافظ على حالة التماسك بين المجرات المختلفة. واعتقد العلماء فترةً طويلة أنها مجرّد مادة عادية بعيدة لدرجة تجعلها خافتة وصعبة التعقّب، بيد أن الأبحاث اللاحقة أظهرت أن الانفجار العظيم الذي أدى إلى نشوء الكون قبل نحو 13.7 بليون سنة لم ينتج كمية كافية من الجزيئات التي تملك التأثير المزعوم للمادة المظلمة. وفي حقبة أولى، كان جزيء النيوترينو المرشّح الأوفر حظاً لكي يكون بمثابة تلك المادة، قبل أن يكتشف العلماء أنه يتحرّك بسرعة تقارب سرعة الضوء، وهو ما يمنعه من الاستقرار داخل المجموعات التي تكوّن الإطار الجاذبي للمجرات، بسبب طاقته الكبيرة وحرارته المرتفعة. أما المرشّح التالي، فكان جزيء النيوترالينو، الذي تشير الحسابات إلى أنه خفيف الوزن، بطيء الحركة ومنخفض درجة الحرارة.
المادة المظلمة عصية على الرؤية المجرّدة لكونها لا تبعث أي إشعاع كهرومغناطيسي ولا تعكسه، لذلك يتحرّى العلماء عنها من خلال الأدلة غير المباشرة. أما أحد أكثر أساليب التحري شيوعاً، فيتمثّل في قياس سرعات النجوم الفردية ومجموعات النجوم إبان تحركها العشوائي داخل المجرات أو خلال دورانها من حولها. لكن، بما أن عنقود Perseus المجري بعيد للغاية بحيث لا يمكن التلسكوب مراقبة كل نجمة داخله على حدة، يعمد فريق هابل إلى تقنية مختلفة، وهي تحديد حجم الكتلة التي يجب على المجرة أن تتكون منها حتى تتّقي تأثير المجرات الأكبر حجماً، وبالتالي مقاومة تيارات السحب الناتجة من قوة جاذبية هذه الأخيرة.
يُذكر أن عدداً من أجهزة الكشف المنتشرة تحت مساحات الجليد القطبي تشارك في مهمة الكشف عن اللغز الكبير. ومن ضمن الوسائل التي يُعوّل عليها في هذا الإطار، ثمة مجموعة من الأنظمة المعلوماتية التي تحاكي أثر المادة المظلمة على تطوّر المجرات، إضافةً إلى «ساحق الجزيئات» في سويسرا الذي يعمل على تكوين مادة مظلمة اصطناعية لمحاكاة طريقة عملها في الكون. ثم تأتي مراكز رصد إلكترونية في الولايات المتحدة وإيطاليا تقع تحت سطح الأرض بعيداً عن التشويشات الخارجية، وتحلّل ترددات الطاقة بعيد اصطدام النيوترالينو بالذرات داخل أجهزة الكشف. وأخيراً، هناك تلسكوب Fermi الذي يجري عمليات مسح تشمل الخصائص النمطية لأشعة غاما الناتجة من الاصطدامات بين المادة المظلمة والجزيئات.