بعد خمس سنوات من الترقّب، صدر مرسوم التشكيلات القضائية. وهو بذلك أذن لما يقارب خُمس القضاة (105 قضاة) ببدء حياتهم المهنية، ووضع حدّاً لواقع كلّف لبنان ثمناً باهظاً على صعيد تهميش سلطات دستوريّة (أي القضاة). وإذا كان للمرسوم من هذه الناحية مفاعيل إيجابيّة نجح أعيان الطبقة السياسيّة بفعل صمتهم في التقليل من شأنها، يخطئ أيضاً من يقلّل من شأن الشوائب التي اعترت مضمونه (راجع عن هذا الأمر خاصة، علي الموسوي، «السفير»، 11/3/2009) أو ظروف إصداره التي عكست مرّة أخرى عيوباً في التنظيم القضائي
نزار صاغيّة *
يحاول هذا المقال نقد المواقف السياسية إزاء التشكيلات القضائية التي صدرت أخيراً، والتي بقيت كلها دون مستوى الأزمة أو المخاض الذي عرفه هذا المشروع خلال عملية استيلاده، وتبقى بأية حال قاصرة عن التأسيس لإصلاحات تمنع حدوث أزمات مماثلة.

الفئة الأولى: مواقف خطابيّة تؤيّد ضمناً إبقاء يد السياسيّ على القضاء:

هذه المواقف الخطابيّة صادرة عن بعض أعيان حركة 14 آذار (مروان حمادة، النهار 8 آذار) ممّن عدّ صدور التشكيلات وكأنّها إنجاز له بالتعاون مع رئيس الجمهورية، بوجه المعارضة التي سعت، بالتعاون مع الرئيس السابق إميل لحود، إلى تعطيلها (سمير فرنجية، الشرق الأوسط 12 آذار)، تماماً كما فعلت بشأن المحكمة الدولية الخاصة أو بشأن استكمال أعضاء المجلس الدستوري. ومفاد ذلك أن التشكيلات ما كانت لتصدر لولا وجود فريق لديه إرادة حازمة في إنجازها، وثبات في تجاوز العقبات التي دأب الفريق الآخر على وضعها. وأكثر بلاغة ممّا قيل، هو الصمت الذي لزمه غالبيّة المسؤولين في هذه الحركة الذين امتنعوا عن التعليق على اتّهامهم بمكافأة القضاة الذين أسهموا في التحقيق في جريمة اغتيال الحريري أو في ما يتّصل بالمحكمة الدوليّة، أو بشكل أعمّ القضاة الذين يناصرونهم، وكأنهم لا يجدون مذمّة في اتهامهم بأفعال مماثلة تبقى بالنسبة إليهم أموراً جد طبيعية ما داموا يتمتّعون بالغالبية النيابية، أو كأنّهم يرغبون في تعزيز الاعتقاد بأن الحركة حقّقت انتصاراً معيّناً داخل القضاء، تماماً كما فعلت في التفرّد في انتخاب عدد من أعضاء المجلس الدستوري. وبالطبع، لا يخفى على أحد توقيت هذا الانتصار خلال أقلّ من أسبوع من انتصارها الأهمّ بشأن إنشاء المحكمة الدولية.
وخلافاً لظاهر البيان، ذهب بعض أعيان حزب اللّه في الاتجاه نفسه. فالنائب محمد رعد رأى أن مكمن المشكلة هو في محاولة 14 آذار الاستئثار بالسلطة دون اعتماد التوافق كقاعدة عامة، وأنّ الحلّ مستقبلاً (أي عند نجاح المعارضة في حيازة الأكثرية النيابية) هو في ترسيخ هذا التوافق الذي يمثّل بالنسبة إليها قناعة راسخة. وهكذا، يظهر أن المشكلة الأساسية تظهر ليس في وضع يد «السياسي» على القضاء بما يمسّ باستقلاليته، بل في وضع يد فريق سياسيّ من لون واحد عليه. وإذ ندّد النائب حسن فضل الله بتسييس القضاء وبإجراء التشكيلات دون معايير، فإنه سرعان ما رأى أن إجراء التشكيلات على هذا النحو إنما أخلّ بالتوازن داخل القضاء، بما يوحي بشعور أطراف من المعارضة بالغبن (راجع صحف 11 آذار 2009).
والواقع أن هذين الطرحين يلتقيان، رغم الاختلاف في تقويم مضمون المرسوم وفي تحديد المسؤوليات، على أمر أساسي، وهو أنّ الأزمة القضائية نشأت عن سوء في الطبقة السياسية، وأنّ الإصلاح يكمن في تحسين أدائها دونما حاجة بالضرورة لأي إصلاح في التنظيم القضائي، وتحديداً في تدعيم استقلالية القضاء إزاء هذه الطبقة. وقد لاقى العماد عون هذا الفريق في بعض أوجه خطابه كما نبيّن أدناه تحت خانة الفئة الثالثة من المواقف.
والواقع أن هذه المواقف بدت عموماً امتداداً للجدل السياسي الدائر منذ سنوات بين منطقين متطرّفين: الأوّل منطق «ديموقراطيّة الأكثريّة» تتولّى الغالبيّة النيابيّة بموجبه الشؤون العامّة كلها، وديموقراطيّة توافقيّة يشارك الأطراف السياسيّون فيها في كلّ شاردة وواردة، علماً بأنّ كلا المنطقين يؤيّد إبقاء يد «السياسي» على القضاء.

الفئة الثانية: مواقف خطابيّة تؤول إلى «تجميل» مجلس القضاء الأعلى مع إظهاره مظهر الحريص على استقلاليّة القضاء:

هنا نجد خاصّة مجموعة من المواقف «التجميليّة» التي توحي بأنّ مجلس القضاء الأعلى يمثّل «السلطة القضائيّة» وأنّ إقرار مشروع التشكيلات الذي وضعه بإجماع أعضائه دون تدخّل يُعدّ «ممارسة سويّة» و«تعزيزاً لاستقلاليّة هذه السلطة».
وهذا ما نقرأه خصوصاً في تصريحي رئيس الجمهورية غداة إصدار مشروع التشكيلات (7 آذار) وأيضاً خلال استقبال مجلس القضاء الأعلى (11 آذار)، بحيث هنّأه على وضع مشروع بالإجماع، واصفاً ذلك بأنّه «رسالة مهمّة على مستوى عمل المؤسّسات»، وخطوة أساسية في اتجاه إنجاز مشاريع تعزيز السلطة القضائية واستقلاليّتها الموجودة في مجلس النواب، داعياً أعضاء المجلس إلى الاستمرار في النهج البعيد عن التأثّر بأيّ ضغوط أو مداخلات أو تدخّلات.
وأوّل ما نستشفّه من هذه التصريحات (وهو أمر جيّد) هو أنّ رئيس الجمهوريّة يحترم عن حقّ صلاحيّات مجلس القضاء الأعلى ويرفض أن يكون رقيباً عليه بشأن مشاريع التشكيلات، وهو بذلك ينقض سابقة سلفه (الرئيس لحود)، بحيث إن إنجاز الرئيس يكمن ليس في مضمون التشكيلات بل في إقرارها دون أي تدخّل، على نحو يتماشى تماماً مع الإصلاحات القانونية (2001) الآيلة إلى تعزيز استقلالية القضاء.
أمّا ثاني ما نستشفّه منها، فهو أن رئيس الجمهورية لم يكتفِ بذلك، بل ذهب إلى حدّ الدفاع عن مشروعيّة مجلس القضاء الأعلى إزاء الانتقادات الموجّهة إليه: فهو أنجز عمله «بالإجماع» على مستوى عمل المؤسسات وعلى نحو يعزّز استقلالية القضاء، وفي حال وجود أي ثغرة أو خلل داخل القضاء، فهو وحده المسؤول عن تصحيحها. وقد بدا الرئيس سليمان بذلك كمن يقول: كما أن رأس الدولة يمتنع عن التدخّل في أعمال مجلس القضاء الأعلى، كذلك يتعيّن على الطبقة السياسية أن تمتنع عن ذلك، وللمجلس وحده مسؤوليّة تصحيح الأخطاء.
وهو بذلك يذكّر بخطاب وزير العدل بهيج طبارة الذي كان يدعو دوماً إلى الامتناع عن أيّ نقد سياسي أو إعلامي للقضاء أو لمجلس القضاء، صوناً لـ«هيبة القضاء»، على أن يترك للأجهزة القضائية المعنية وحدها مهمّة تصحيح العيوب والثغرات. وقد بدا الرئيس في كلّ ذلك وكأنّه يبعد ناظريه عن أساس المشكلة في القضاء اللبناني على امتداد تاريخه، حيث تبدّى مجلس القضاء الأعلى في أغلب الأحيان شريكاً للطبقة السياسيّة في قلب القضاء، وتحديداً من خلال استخدام سلاح التشكيلات القضائيّة.
وإذ رأى الرئيس سليمان أن إقرار مشروع التشكيلات يُعدّ باباً لإنجاز مشاريع القوانين الهادفة إلى دعم استقلالية السلطة القضائية والعالقة في مجلس النواب (وأبرزها مشروع حسين الحسيني)، فإنّ التدقيق في مجمل الظروف المحيطة يظهر أنّ هذا الربط ليس له أي أساس موضوعي. فعدا أنّ عمر أبرز هذه المشاريع قارب اثني عشر عاماً وأصبح بحاجة إلى إعادة نظر شاملة، فإنّ هدفها الأول هو تعزيز استقلالية أعضاء مجلس القضاء الأعلى إزاء السلطة السياسية، وذلك عن طريق تكريس مبدأ انتخاب غالبيتهم من جانب القضاة (وهو مبدأ كرّسه الطائف)، ما يُعدّ بحد ذاته طعناً بمشروعية المجلس، وخصوصاً في تركيبته الحالية حيث تفرّدت السلطة السياسية في تعيين أعضائه في أجواء من المحاصصة قلّ نظيرها. فكأنما الإشارة إلى هذه المشاريع جاءت بالدرجة الأولى عن غير قناعة وفقط من باب رفع العتب، وبأحسن الأحوال من باب وضع النواب الراغبين بمساءلة مجلس القضاء أمام مسؤولياتهم التشريعية.
وبالنتيجة، وفيما سُجّل للرئيس سليمان أنه وضع حدّاً لوضع لا يحتمل، كما سبق بيانه، فقد كان من الأسلم، على ضوء شوائب المرسوم، لو أنه أعلن أنّ إصدار المرسوم أقلّ الشرَّيْن (تعطيله أو إقراره بشكله الحالي) دون تجميل وجه المجلس بوجه ناقديه. ثم ما معنى التغني بالإجماع؟ فهل يُعدّ الإجماع وتمجيد الإجماع، في ظل الشوائب التي تناولتها الصحف، دليل عافية أم أمراً يولّد مزيداً من القلق؟ بل ما معنى الإجماع؟ وهل نسي القائلون به أنّ المجلس بوضعه الحالي مؤلّف فقط من سبعة أعضاء (من أصل عشرة) كلّهم عيّنتهم السلطة التنفيذية، بنتيجة تقاعد البعض واستقالة البعض الآخر وعلى رأسهم رئيس هيئة التفتيش القضائي، أي من يعرف بتفاصيل أداء القضاة والقاضيين المنتخبين (ومنهما القاضي المشهود له رالف رياشي، ومن منّا لا يذكر استقالته الاحتجاجية على تعطيل المجلس للتشكيلات؟). وألا يجعل كل ذلك المجلس بتركيبته الحالية منقوص المشروعية أكثر من أي وقت مضى، بحيث أصبح أقل قدرة على حسم التشكيلات في حال حصول أي خلاف مع وزير العدل، وهو أمر يفرض موافقة سبعة أعضاء، الأمر الذي يضعف أيضاً وأيضاً مشروعية التشكيلات الصادرة عنه؟ والغريب في هذا المجال أن المجلس بدا كأنه لا يهتم بتعزيز قدرة الحسم، ما دام تجاهل تماماً أن القاضي رالف رياشي أبدى استعداده للعودة عن استقالته في حال عزم المجلس على إنجاز مشروع التشكيلات. وألا يسوغ التساؤل في ظل كل ذلك عمّا إذا كان إضعاف المجلس على النحو الذي تقدم وعلى نحو يتيح التدخّل في مقرّراته شرطاً أساسياً في قبول مقرّراته؟ أياً يكن، فلا بدّ من الاعتراف بأن هذا التخوف مشروع، وأنه لو صحّ، فإن ذلك يدحض أي قول بتعزيز دور مجلس القضاء الأعلى الذي يكون قد خرج بالواقع من هذه المحنة مكسور الجانح أكثر من أي وقت مضى، مع انعكاسات جدّ سلبية على مبدأ استقلالية القضاءوالأهمّ من «مجاملة» المجلس هو انعكاساتها على خطابه، وتالياً على أدائه: فما أن رحّب رئيس الجمهورية بالمجلس مهنّئاً، حتى بادله رئيسه (غالب غانم) بخطاب يقارب «تمجيد الذات» ويقطع أي مجال للتشكيك بوجود شوائب. فالمجلس «كان على أرقى مستوى من مستويات تحمّل المسؤوليّة عندما أصدر التشكيلات القضائية بالإجماع ولم يتوخَّ إلا المصلحة العامة»، دون أيّ التفاتة إلى الانتقادات التي طالته. بل أكثر من ذلك، وبشكل جدّ بليغ، تجاهل هذا الأخير في خطاب الحفل لتوقيع كتابه «حكم القانون» (راجع الصحف في 11 آذار) الدعوة إلى إقرار ضمانات قانونية لاستقلالية القضاء، داعياً القاضي (مستفرداً كما هو والذي ينتقص إلى ضمانات قانونية وفق أدنى المعايير الدولية) إلى «تعطيل كل ضغط يمارس عليه وكل هواء هابّ من الخارج وأن يقيم بينه وبين هواة التأثيرومحترفيه جداراً من الإسمنت المسلّح»(!!). فكأنما المسؤولية النهائية لتعزيز استقلالية القاضي تلقى تباعاً من رئيس الجمهورية على مجلس القضاء الأعلى الذي يسارع في إلقائها على القاضي «المستفرد» الذي يتعين عليه هو، وهو وحده، بناء جدار إسمنت!! وإذا امتنع الرئيس غانم عن تسمية «في وجه من» عملاً بموجب التحفظ، فلا يحتاج المرء إلى كثير مخيلة للقول إنه يقصد دون ريب أعيان الطبقة السياسية وعلى رأسهم ديناصورات النظام اللبناني. فإذا نجح القاضي «المستفرد» في ذلك، وفي تجاوز هذه «الأهوال»، فما هي المعايير التي وضعها المجلس والتي تضمن حمايته أو مكافأة شجاعته «المشهودة»؟ وهذا هو لبّ الموضوع الذي يمثّل أساساً لتعزيز حكم القانون. وهنا للأسف، لزم الخطاب الصمت.

الفئة الثالثة: مواقف خطابيّة تدعو إلى تكريس ضمانات قانونيّة لاستقلاليّة القضاء:

أما الموقف الثالث، وقد عبر عنه خصوصاً رئيس التيار الوطني الحر في لقائه الأسبوعيّ (10 آذار، صحف 11 آذار)، ومفاده أن العلة تتجاوز مضمون التشكيلات أو تدخّل قوى سياسية في وضعها، فهي تكمن في التنظيم القضائي. فإذا وافق رئيس الجمهوريّة أنه ليس بوسعه ردّ مشروع صدر بالإجماع عن مجلس القضاء الأعلى، خالفه ضمناً وبشكل شبه ظاهر، لجهة مشروعية مجلس القضاء الأعلى أو لجهة إسهام أعماله في تعزيز استقلالية القضاء: فهذه المشروعية مفقودة ما دام أعضاء هذا المجلس عيّنتهم السلطة التنفيذيّة وفق قواعد المحاصصة التي بقي عون (ومعه المسيحيّون) بمنأى عنها. فمن عيّن وفق هذه القواعد، يعمل منطقياً على هديها بمنأى عن معايير الكفاءة والنزاهة والفاعلية ممّا يؤول حكماً إلى مكافأة الأتباع (الأزلام) مهما كان أداؤهم وإلى الإجحاف بمن ليسوا كذلك وتحديداً بمن يلتزم بقسمه، أي أن يكون مستقلاً.
وانطلاقاً من ذلك، فانّ العبرة تكمن في تعديل قانون التنظيم القضائيّ بهدف «تعزيز استقلالية القاضي» (تحريره وفقاً لتعبير عون)، ولا سيما لجهة تحويل مجلس القضاء الأعلى إلى «سلطة منتخبة» (من جانب القضاة أنفسهم) تتمتع بالاستقلالية الإداريّة وسلطة القرار. فما نفع الإقرار بصلاحيات المجلس إذا لم يكن المجلس مستقلاً؟ وتالياً، بدا هذا الموقف، أقله في أماكن عدّة ولو بشكل ملتبس أحياناً، متميّزاً عن المواقف السابقة، التي آلت إمّا إلى إخضاع التعيينات للمحسوبية السياسية (توافقية أو بالأكثرية) وإما إلى تجميل مجلس القضاء الأعلى باسم استقلالية القضاء وعلى نحو يحجب آليات قمع القضاة واستتباعهم. وهو من هذا الباب بمثابة سابقة لشخصية سياسية من الصفّ الأول مفادها إعادة إدراج الإصلاح القضائي في سلّم الأولويات بعد ما يقارب عقداً من التهميش.
ويسجَّل لعون أنه لم يكتفِ بالدفاع عن استقلالية القاضي، بل سعى أيضاً إلى إبرازها ضمن أولى الأولويات، وذلك حين استحضر «العدل» ومأثرة تشرشل عن القضاء خلال الحرب العالمية الثانية. بالمقابل، لا بد من أن نسجل أن الخطاب بقي في ظروفه وفي بعض جوانبه ملتبساً وبأية حال أقلّ إشراقاً، وأبرزها أربعة جوانب:
الجانب الأول: أن الخطاب الناريّ الحادّ بشأن استقلالية القضاء لم يأت في سياق إعلان التيار عن برنامجه الانتخابي، بما يشير إلى وجود قناعة راسخة بوظيفة القضاء، بل كردة فعل على مرسوم التشكيلات، وتحديداً كنتيجة لإقصاء التيار عنها. فكأنما الحديث الحاد عن الإصلاحات هو مجرد تكتيك لإعلان الغضب تحت غطاء شعارات نبيلة. وما يعزز هذه الفرضية هو الخلط «الملتبس» بين غياب المعايير الموضوعية لتعيين القضاة وإقصاء التيار ومعه المسيحيون عن التشكيلات. فما رابط هذا بذاك؟ وألا يذكّر ذلك بقول كثيرين من أعلام السياسة (نبيه بري، سليمان فرنجية) الذين يشرطون التعفّف عن المطالبة بحصة بتعفف الآخرين عن المطالبة بحصص؟ وبالطبع، تبقى محاولة عون في حل هذا التناقض غير مقنعة (لا سياسياًً ولا منطقياً) فالرابط يتأتى وفقاً لرأيه من واقعة واحدة مفادها حسن نيّات التيار، أي تمسك التيار في استخدام مشاركته لفرض المعايير المذكورة.
الجانب الثاني: تجاهل الخطاب بالكامل الجوانب الإيجابية من المرسوم التي أتاحت لخُمس القضاة ممارسة وظائفهم بعد طول انتظار، وهو صمت شارك فيه التيار مجمل القوى السياسية الأخرى طوال السنوات الماضية. والواقع أن هذا الصمت المتمادي يوحي هنا أيضاً بوجود رؤية مجتزأة لدور القضاء ولسبل إصلاحه.
الجانب الثالث: وقوامه إعلان 7 حزيران (يوم الانتخابات) يوماً للحساب تحت شعار «الحساب آت». وما يفهم من هذا الإعلان أنه سيعمد ليس فقط إلى دحر الطبقة السياسية «الفاسدة» انتخابياً بل أيضاً إلى محاسبة أعضاء مجلس القضاء الأعلى الذين استخدموا صلاحياتهم على وجه لا يستقيم مع وظائفهم. ومرد التساؤل هنا هو الآتي: بأيّ وسائل سحرية سيتسنّى له ذلك؟ فعلى فرض فوز «المعارضة»، هل نسي عون أنه لمّح في سياق الحديث نفسه إلى ضلوع أحد حلفائه الأساسيّين، الرئيس نبيه بري، في طبخ المشروع من خلال أعضاء عُيّنوا وفق المحاصصة (بما يذكّر بالترويكا)؟ وألا يولّد هذا التلميح اعتقاداً مشروعاً بوجود مقاومة قويّة داخل «المعارضة» ضد تكريس استقلالية القضاء، الذي يبقى خارج أولويات برنامجها؟ وألا يخشى إذ ذاك، أن ينحدر خطاب التيار من المطالبة بالاستقلالية إلى المطالبة بحصة (أو بشراكة) تبعاً لإعراض الآخرين عن التعفف كما أشار إليه الخطاب في بعض جوانبه؟ وألا يحتم كل ذلك على التيار أن يكون أكثر تواضعاً بشأن إرادة حلفائه وأن يقارب الإصلاح ليس على أنّه وليد لحظة سحرية بل على أنه عملية طويلة الأمد، تتطلب تضافر جهود اجتماعية عدّة أوّلها جهود القضاة أنفسهم الذين حان الوقت ليتحركوا جماعياً؟ فهل يصدّق الناس أن القضاة مستقلون بغياب قضاة يناضلون من أجل استقلالهم؟
الجانب الرابع: يؤمل أن يكون التيار على بيّنة من دقة خطاب المحاسبة في الشأن القضائي. ويكفي لتبيان ذلك التذكير بخطاب بدايات عهد لحود 1999: فما إن استلم لحود الحكم، اندحر المطالبون باستقلالية القضاء عن مطالبهم السابقة بحجة أن السلطة الحاضرة موثوقة وأن لا حاجة لضمانات في ظل سلطة كهذه، ليطالبوا بتطهير القضاء ومحاسبته، بحجة أنه لا بد من تطهير القضاء قبل ضمان استقلاليته، فانتهى بهم الأمر إلى إعداد مشروع قانون لرفع «الحصانة عن القضاء» بقرار إداري دون مراعاة حقوق الدفاع، وهو مشروع قانون آل بالدرجة الأولى إلى ترهيب القضاة وتالياً إلى إضعاف ما بقي لديهم من استقلالية، دون أن يكون له أي نفع على صعيد مناقبية القضاة، التي تبقى هي الأخرى عملية طويلة الأمد ولا تتحقق إلا رويداً رويداً وبمشاركة القضاة أنفسهم. والواقع أن خطاب المحاسبة (على أهميته) غالباً ما مثّل خطراً كبيراً على استقلالية القضاء ما لم يترافق مع إجراءات وضوابط ضامنة لاستقلالية القضاة.
هذه هي بعض الملاحظات بشأن ردود فعل الطبقة السياسية على التشكيلات. وإذا بدا بعضها قاسياً أو مبنياً على استحضار مقارنات مبالغ بها بعض الشيء، فالغاية منها هي فقط التحذير من تداعيات أو انقلابات أثبت التاريخ اللبناني الحديث قابليتها للتكرار.
بقي أن نسجل ختاماً أمراً آخر ذا رمزية عالية وهو أن هذا المرسوم لم يصدر في بداية عهد سياسي معيّن كما درجت العادة، بل فقط قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات النيابية. بالطبع، هذا لا يعني بالضرورة أن فريق 14 آذار لم يستخدم القضاء خلال حكمه بطريقة أو بأخرى، لكنه يعني أن خوفه من استخدام القضاء ضده عند ترك الحكم لا يقل بحال من الأحوال عن ميله إلى استخدامه. في الاتجاه نفسه، نسجل سعي هذا الفريق (ومعه آخرون من الطبقة السياسية) إلى تعديل قانون إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء على نحو يجرد القضاء العدلي صراحة من أيّ صلاحية في ملاحقة أيّ منهم. موعد النظر في مشروع القانون المذكور: 19 آذار (اليوم). وله بالطبع الأولوية بالنسبة إلى مشاريع قوانين السلطة القضائية التي ما برحت تنتظر هنالك منذ ما يزيد من عقد! وما نستشفه من كل ذلك هو أن القاضي لا يزال قادراً على إثارة بعض الخوف في قلب السياسيّ، وبقدر ما يبقى هذا الخوف، بقدر ما يبقى
الأمل.
* محام وباحث في القانون