قلّما يحكي الناس عن أمهاتهم، وهم عندما يفعلون، يحارون في تعداد طرق تعبير أمهاتهم عن حبهنّ لهم فتختلط عبارات الحب بالشكوى، والاهتمام الزائد بالتذمر. قلّة من تلتفت إلى الحديث عن الأم خارج إطار «وظيفتها». اللافت أن الأبناء لا يتحمّلون مسؤولية غياب صورة أخرى لأمهاتهم، ما دامت الأخيرات لا يجدن أنفسهنّ خارج هذه المهمّة. ماذا لو لم تكنَّ أمهات؟ بعض من إجابات «ستات الحبايب»
مهى زراقط
«لا، لا أشبه أمي. هي أمٌّ ناجحة». تخرج هذه العبارة عفوية على لسان وداد، والدة ثلاثة شبان أكبرهم في الثامنة عشرة من عمره، وهي تتذكر موقفاً «حصل معي أمس». كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، وهي تتابع فيلماً تلفزيونياً، عندما انتبهت إلى ابنها خارجاً من المطبخ يحمل فنجان «نيسكافيه» ويعود إلى غرفته ليكمل درسه تحضيراً لامتحاناته الفصلية. تقول: «تذكرت نفسي عندما كنت في عمره وكيف كانت أمي تأتي لي بالـ«نيسكافيه» إلى غرفتي، فلم أستطع أن أطرد السؤال: لماذا لم أفعل لابني الشيء نفسه؟». الإجابة الوحيدة التي تقدمها: «أمي ناجحة»، تتبعها بشرح: «أفشل دائماً كلما قارنت نفسي بها، هي أم مثالية».
يحمل كلام وداد في طياته تعريفاً لـ«وظيفة» الأمومة وشروط النجاح بها: تكريس الحياة للأطفال، كما تفعل أمها. وهذا ما يجعلها تضع نفسها دائماً موضع مساءلة: هل أنا أم ناجحة؟ ولماذا رافقني الشعور بالتقصير لمجرد أن ابني، البالغ من العمر 18 عاماً، حضّر شراباً لنفسه؟
تتكرر المواقف التي تفرض مثل هذه الأسئلة على تلك السيدة الأربعينية، كما تقول. لكنها تعترف بأن أسئلة من نوع آخر تغزو رأسها بين حين وآخر، وخصوصاً في ساعات وحدتها. كثيراً ما تتذكر سنوات دراستها الجامعية، وحلم الدكتوراه الذي لم يتحقق: «لا، لم يكن الأطفال سبب توقفي عن الدراسة، بل الظروف الأمنية»، تقول ثم تستدرك: «ربما في وقت لاحق، مع إنجاب الأطفال والمسؤوليات الإضافية التي يرتبها وجودهم صار عليّ الاختيار».
لدى الوصول إلى هذه النقطة يعود الحديث إلى المكان الذي بدأ منه: «صحيح أني كنت أحب أن أكون منتجة في مكان آخر، لكني أيضاً أحب أن أكون أماً». هنا تعترف بأن للأمومة سلبيات: «الحدّ من القدرة على تحقيق الأحلام الشخصية»، لكنها تستدرك قائلة: «في مقابل حياة عائلية مستقرة. العائلة حلوة وما يواسيني أن أولادي قد يحققون ما لم أحققه».
هذا ما تقوله صباح أيضاً، والدة خمس فتيات أكملن دراستهن الجامعية وأسسن عائلات. هي تزوجت في الخامسة عشرة من عمرها، «لولا ذلك لأكملت دراستي، وخصوصاً أني كبرت في بيئة متعلّمة... كنت سأكون موظفة ولي دور في المجتمع». لا يطول حديث صباح عن نفسها وأحلامها، بل تنتقل سريعاً إلى الأولاد. تقول إن حرمانها من التعليم هو الذي دفعها إلى حثّ بناتها على العلم والتفوّق: «لم يكن همي أن أزوّجهن، بل أن يكملن تعليمهن ويحققن أنفسهن. لقد حرصت على توعية أهمية العلم لديهن، ولا أزال أتمنى إلى اليوم لو يتابعن الدراسات العليا، لكن الحياة والمسؤوليات أخذتهن بدورها إلى مكان آخر». هذه المراجعة السريعة التي تجريها صباح لحياتها، خلال وقت تسرقه من المطبخ، تؤكد سعادتها بحياتها اليوم وسط فتياتها اللواتي تزوّجن وأنجبن وتحوّلن إلى صديقات لها، تقول برضى: «أنا سعيدة بوجودي بينهنّ».
سناء أيضاً سعيدة بأولادها الخمسة، هي التي «كافحت» مع زوجها لأن يكملوا دراستهم، حلمها الذي لم تحققه. إجابتها الأولى عن سؤال: «ماذا لو لم تكوني أماً؟» كانت: "بيكون نصيبي. بقعد عزابية، بشتغل وبعيش لحالي». لكنها تستدرك بأن حلمها بالعمل بقي موجوداً حتى بعدما تزوجت وأنجبت... لكن بهدف واحد: توفير مدخول إضافي ومساعدة زوجها لتحسين مستوى حياة الأطفال. «هذا ما جاهدتُ لكي تفعله بناتي، وعندما توظفن فرحتُ كثيراً».
هنا، تختلف تعابير الصوت، تصبح أكثر ثقة وحسماً، فسناء الآن ستؤكد دورها في هذا النجاح: «أنا خدمتهم من كلّ قلبي، بناتي مش ماسكين مكنسة بحياتون، كنت أسهر خلال فترات امتحاناتهم لكي لا يقصّروا في دروسهم. كلّ ما يحتاجون إليه يصل إلى خدمتهم». تعترف: «صح أنا هلق تعبت ولم أعد قادرة كما في الماضي، أحب أحياناً أن يساعدوني لكني عندما أراهم متعبين لا أطلب منهم شيئاً. هيدا قلب الأم يا أمي».
حتى ليلى، لا تأتي بإجابة مختلفة. السيدة التي انخرطت باكراً في العمل السياسي وكانت تتخيل نفسها تقوم بعمل مشابه لعمل المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد أو الفلسطينية ليلى خالد، تبدأ حديثها برفض وصف حياتها وسط أولادها الثلاثة بالعجقة. «ما تقولي عجقة، قولي سعادة». لا تنفي ليلى وجود أحلام شخصية لديها، بل إنها هي من يصفها بالأحلام الضائعة، لكن «الامرأة التي تشعر بالتحقق داخل بيتها وتجد نفسها شريكة في القرار لا تفكر كثيراً بما لم تحققه لو كانت قد اختارت مساراً آخر لحياتها. أنا، كلّما راجعت نفسي وجدتني واثقة من أني كنت سأتخذ الخيار نفسه لو رجع بي الزمن إلى الوراء: أتزوج الرجل نفسه وأنجب أولادي أنفسهم». تضيف: «بالطبع كنت أتمنى لو تسمح لي الظروف بتطوير نفسي، لذلك أفرح كثيراً عندما أسمع عن نجاح أي امرأة ووصولها إلى مراكز متقدمة».
جنان، أم شابة لطفلين. استقالت من عملها بعد إنجاب الطفل الثاني وتفرّغت للاعتناء بهما. ترسم على وجهها تعابير من سيهمّ بالبكاء لدى سماع السؤال وتقول ممازحة: «كنت رح أعمل كثير أشياء». ثم لا تلبث أن تضحك وتجيب بجدية: «لا أفكر بهذا الأمر، لأني اتخذت قراري واخترت. أحبّ أن أكون أماً ناجحة ولا أشعر بأن أولادي كانوا سينعمون بالعاطفة نفسها لو أني كنت امرأة عاملة». تضع جنان مَثَل والدتها نصب عينها، تخبرنا عن يوم الجمعة الموعد الأسبوعي الذي تجتمع فيه العائلة بكاملها حول طاولة الطعام والسعادة التي تشعر بها في عيني أمها وهي تراهم يأكلون بنهم أطباق حضّرتها لهم بيديها، وتقول: «لو لم أكن أماً... لكنت أتمنى أن أكون إياها».