أنسي الحاجتكاد الأجيال الجديدة تنسى أن الصحافة كتابة، والكتابة قلم، والقلم وجدان وصقل لا وظيفة ولا شهادة جامعيّة، والكتابة، كما هو معروف، تصدر من الشعور والأعصاب لتفترش اللغة، وهذه ينابيع وجداول تُفتّحها وتهدر بها التجربة الحيّة ويُعْليها الصدق وتضمّخها المعرفة والخيال. الصحافي أديب يومي، وكم من روائي احترف الصحافة، وكم من أديب وهبها عمره وحَرَمَتْه ما كان يعتزمه من تأليف، ولم يبخل عليها، لا لأنّها مصدر عيش فحسب بل لأنّه استعاض بها، مختاراً أو مُكْرهاً، عن تأليف الكتاب، فاستودعها عصارة روحه. الصحافة العربيّة أكثر من غيرها في العالم صنيع أدباء، كانوا طليعة حركة التنوير في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين. والصحافة التي لم ينهض بها أدباء لم تترك أثراً، وبينها مَن تَضافرتْ لإصداره رؤوس أموال ضخمة وتجمّعت حوله ووراءه قوى سياسيّة جبّارة. لا نقصد بالأدباء، اللفظيّين الإنشائيين، وما أكثرهم دائماً، بل أصحاب الإلهام والابتكار وملهَمي الأسلوب. ولا تُغْني الأفكارُ ولا الثقافة السياسيّة والفلسفيّة عن إتقان الكتابة، ولا يتأتّى الإتقان بالاجتهاد وحده، بل باتحاد الموهبة والاجتهاد، وتحالف العفويّة والوعي، وجرأة التجديد ومراقصة الخَطَر. طبعاً ما هي إلاّ بعضٌ من صفات كيمياء الكتابة في بعدها اليومي.
اجتاحت الصحف اللبنانية منذ أربعين عاماً موجات كتّاب التقارير، وهم نوع من رجال التحري المموّهين بصفة محلّلين أو مخبرين. أحياناً يملى عليهم ما لا يقدّرون مفاعيله، حين يكون الهامس معلّماً في المادتين: التوجيه والتعبير. لا يعني ذلك أن الصحافة في الماضي لم تعرف أمثالاً لهؤلاء الكَتَبة، ولكن غلبت عليهم في حينه صفة صحافيي السلطة أو السلطان. ولا يدخل في حسابنا صحافيو الباب العالي ولا عملاء الانتداب، فهؤلاء كانوا أشبه بالموظفين المعلنين، شأن الطائفة الكبرى من صحافيي «الرأي» السياسي في جرائد الأنظمة العربية.
كتّاب التقارير، من الناحية السياسيّة، صورة عن الواقع: السلطة الفعليّة في أيدي البوليس السرّي لا عند الحكومات ولا الجيوش، وطبعاً ليست في أيدي المجالس النيابيّة. البوليس السرّي استوجب صحافة من نوعه. قوّة البوليس السرّي هي شَبَحيّته وقوّة صحافي التقرير الاستخباراتي هي أنّه فوق التأثير العاطفي.
يلاحظ القارئ الفرق الشاسع بين «المقالات السرّية» وتلك المهنيّة العاديّة: الأولى تحبس الأنفاس على طريقة أفلام التهديد، والأخرى مملّة مثل الفضيلة، إلاّ إذا تمتّع كاتبها بأسلوب يعوّض له عن رتابة مضمونه، فتصبح مقالته في أحسن أحوالها «معقولة»، أي تلك التي لا يذمّها أحد ولا أحد يقرأها.
نقسو على الصحافة لأنّها مهنة كتابيّة، ويجب أن لا تكون ثمّة رأفة بانحطاط الكلام. وانحطاط الكلام ليس فقط ظاهرة إنشائيّة أو خمولاً فكرياً بل هو أحياناً، كما تدلّنا صحافة نصف القرن الأخير، ظاهرة فساد أخلاقي وفي بعض الحالات انعدام القانون الأخلاقي كلّياً وسيادة تأجير مساحات الخبر والرأي. وتستعمل ذريعة الديموقراطية أو حريّة التعبير لتبرير سوبرماركت البضائع في الجريدة الواحدة.
■ ■ ■
وفي الصحيفة، إلى صاحبها ورئيس تحريرها ومديريها، سكرتير تحرير، غالباً ما يكون من أهمّ أركانها، يجهله القرّاء، ولكن ما يطالعونه هو ما يرضى عنه وأحياناً ما يعيد كتابته أو ينقذه بقلمه من علل مميتة.
كانت أمانة التحرير مسؤوليّة بلا ثواب والجندي المجهول كان جندياً مجهولاً. حسبه الأستذة الفعليّة عبر التصحيح. في الزمن الأخير بتنا نرى مَن يتفاخر بأنه وضع عناوين أو أشرف على صفحة. لا شك في أفضال أمناء التحرير، وإن صاروا يُسمّون رؤساء تحرير صفحات، ولكن ما فيه شك هو ما يزعمون لأنفسهم، كأن يلغي أحدهم أسلوب الكاتب ليُحلّ أسلوبه محلّه، ولا يلبث أسلوبه هذا أن يصبح، بقوّة السلطة، أسلوباً معمّماً. واجب المحرر ينبغي ألاّ يتعدّى إصلاح الخطأ وإزالة الحشو، وإذا ساءت القطعة التي بين يديه وهبطت دون المعقول، أصبح طيّها واجباً. وإذا سألتَ ما هو المعقول ودون المعقول لتعذّر الجواب بوضوح، فلكلّ محرّر مستواه ومقاييسه. والوضع المثالي أن تتوافر في المحرّر المسؤول عن قطاعٍ ما، صفات تجعله مرجعاً قد لا يفوق محرريه موهبة ولكنهم يطمئنون إلى خبرته كما يطمئن الأستاذ إلى أستاذ أعتق والطبيب إلى طبيب أعرق.
في الماضي كان أساتذة الصحافة يتنافسون في تنقية اللغة من الشوائب أو في الاهتداء إلى فصحى مبسّطة دون إسفاف، وكان لكلٍّ أسلوبه، وهذا أضعف الإيمان. ثم رانت ابتداءً من ستّينات القرن العشرين أجواء لمعت فيها بروق الفانتيزيا وتجديدات جذّابة وإن لم تكن دائماً مستساغة. وبما أن لكلّ أمرٍ ضريبة، كانت ضريبة هذا التجدّد المنعش افتعالات متحذلقة عمّمها إرهاب الانتشار وتلامذة لم يتعلّموا من الدرس غير الترداد.
ومن حسنات تلك التجديدات اختراق جدار الخطابيّة والتزمّت المعنوي والرواسم المحنّطة، ومن سيّئاتها الإقدام على نشر أيّ شيء دون الالتفات إلى النوعيّة، بل ممارسة نشر جماعي أعمى باعتماد قاعدة الديموقراطية، وهي القاعدة التي تكاد تقضي لا على الأدب فحسب بل على اللغة من أساسها في العالم أجمع.
■ ■ ■
لا بد من التركيز أكثر فأكثر على لغة الصحافة، وما التلفزيون والإذاعة سوى امتداد لها. اللغة الصحافية تفترس اللغة الأم في كلّ اللغات، وعلى مَن يتسلّم دفّتها في الجرائد يتوقف مصير العقل لا اتجاهات الكتابة والقراءة وحدهما. إن اللغة هي الحضارة، لا بل هي الحياة، وعلى نواصيها معقود مصير سائر الفنون الجميلة، بما فيها الموسيقى التي إن نجت مباشرة من لغة الكلام البشري لا تنجو ذهنيّاً، فهناك في ضباب تكوين الرؤى والمفاهيم لا شيء ينجو من الكلمة، حتّى ربّما فكرُ الجنين.
اللغة اليوم في أحَدِّ أزماتها، يضربها التشويه من مختلف الجهات، صرفاً ونحواً ومفردات ونطقاً. لفظُ فرنسيّة اليوم لفظٌ معاق ممغوط مقطّع الأوصال، وهذا اللفظ البشع ينعكس في التعبير الكتابي، ويكاد كتّاب الفرنسيّة الأصيلون ينحسرون في نخبة معزولة. حتّى بعض كبار الأدباء والمفكّرين تسرّبت إليهم تشويهات الاختزال والتخلّف والببغاويّة. ولا أدري إن كان ما ينطبق على الفرنسيّة ينطبق على الإنكليزية وسواها، وإن كان الأرجح أنه ينطبق.
لقد انفصلت الصحافة عن الكتابة وانحرفت نحو ما يسمى، زوراً وبهتاناً، لغة الإعلام، وما هي بلغة ولا هو بإعلام، بل فرعٌ شفهي بصري من لغة الصحافة المريضة. العديد من صحافيي العقود الأخيرة باتوا أشبه بموظفي الدولة. وحلّت العلاقات السياسيّة والاجتماعيّة والماليّة محل التثقّف والشغل الرصين على الذات. وصار مَن يحمل أختام النشر أقلّ معرفة وفنّاً واندعاكاً من الكاتب الناشئ. انفصلت الصحافة عن الكتابة وانفصل القرار عن المسؤوليّة وانفصلت الشهرة عن الاستحقاق، وبات كل شيء مسموحاً وكل صوت محمولاً بالأثير وكل وجه مفروضاً، في غياب المدارك والأذواق وهيبة النقد. لقد جيء بكل هذه الأوبئة على موجات الحداثة والديموقراطية، ونسي المتناسون أن الحداثة تطويع للزمن لا انحلال تحت نيره، وأن الديموقراطيّة لا شأن لها بعالم الأدب والفنون، حيث المبدأ شكلاً وجوهراً مبدأ نخبوي أرستقراطي.
إن سقوط اللغة هو السقوط. لقد كانت بدايته إنقاذاً تحوّل إلى مأزق. لا أدري إذا كانت الصحافة قابلة لأن تعود هي ذاتها أداة لإصلاح ما ساهمت في إفساده. فما قضيّتها سوى جزء من كل، وهذا الكلّ هو موجة مدنيّة تحرّكها آلة تاريخية جغرافيّة اقتصاديّة سياسية هائلة تعتبر ما نراه هنا خللاً، إنجازاً تقدميّاً. آلة بلا تاريخ تكره ما يُذكّرها بنقص عراقتها وتعمل لإبداله بما يشبه تركيبها الهجين البربري وحيويّتها الاجتياحيّة الضارية، والتي لا تعرف الرحمة.
ولغة عربيّة مصلوبة بين ليلٍ محنَّط أو عجوز وبعد ظهر مخضرم متلألئ بات متوارياً عن الأنظار وحاضر حائر فقير ومستقبل بلا آباء ولا آفاق.
معركة عظمى بلا متقاتلين.


عابـــرات

الخجل بالنفس رفضٌ للمساواة. إذ بمَ يخجل المرء ولا يتشارك فيه مع الآخرين؟ الاضطراب أو الاحمرار خجلاً ليسا ردّي فعل على انفضاح سرّ معيب، فحسب، بل هما خزي لانكشاف شيء فينا يجرّدنا من ادّعاء التميُّز.
المحافظة على الجمال تشبه دوافعها هذا النوع من الأرستقراطية.
■ ■ ■
نريد أن نصدّق أن ما يتميّز به فلان هو خاص به خلقةً لا «صناعة»، نريد ذلك لأنّه يشبع فينا حاجة إلى الاعتقاد بأن ثمّة آخر هو أفضل منّا. أينما بحثتَ خارج السياق القانوني البحت تجد أن المساواة شعارٌ خطابيّ «انتقامي».
■ ■ ■
يُنتقد كاتب بأنه «بيّاع أحلام». المقصود: حالم يكتب، فالبيع ليس وارداً في سوق مفلسة. كنا ندافع عن مثل هذا. اليوم، بعدما استولت آلة الترويج على لفظة حلم، بات التحفّظ ضروريّاً. أمام كليشيه «حلم؟ ولمَ لا؟ مَن لا يحلم لا يُحقّق»، يجب أن نفهم العكس. صارت لفظة حلم على لسان الببغاء مرادفة للكذب، أو في أرقى الحالات للمبالغة الحمقاء. مَن يكتب أحلاماً يَجْهل أنه يكتب أحلاماً.