في سجن رومية اليوم، أنين سجناء يتهاوى أمام القضبان. صار لهم قاعة يجالسون فيها أمهاتهم. ضوء كثير في القاعة: أمهات وأبناء وزهور. «هذه جنتي»، قالت إحدى الأمهات: «ابحثوا عني في الهواء»، أجاب ابنها
أحمد محسن
يمشين ببطء نحو البوابة المؤدية إلى داخل السجن المركزي في رومية. يُسمح لهنّ بالدخول، فتتسارع خطواتهن تدريجياً. تخفق قلوبهنّ بقوة على الأرجح، فقد اقترب عيد الأم. تحمل الأمهات آلاماً قديمة، ويمضين للقاء أبنائهن في «دار الزيارات العائلية». الدار التي استُحدثت أخيراً بالقرب من مبنى المحكومين في السجن، لتكون فسحة من أمل، يقابل فيها السجناء أقارب لهم. قبل ذلك، لا بد من التوقف على الطريق التي تسلكها الأمهات للوصول إلى الدار الحديثة الولادة. طريق معبّدة بآثار أقدام العسكر، الذين يحرسون السجن القابع خلف خيوط الشمس اللاهبة. باص واحد فقط، أزرق وأبيض ومهترئ، ينقل من يرغب من الزوار إلى داخل السجن. بعضهن لا يتحمّلن قسوة الوقت، فيأخذن الطريق سيراً على أقدامهن. تختلف أزياؤهن، وأعمارهن، ولا توحّدهنّ إلّا اللهفة التي لا تفارق ملامحهن. في الطريق إلى الدار داخل السجن، أم تحدّق إلى الأشجار القريبة، وتقبض جيداً على كيس نايلون أسود، ربما تخبئ فيه طعاماً، أو كنزة صوفية تقي ابنها قسوة البرد في رومية. أمّ أخرى، تحمل ورداً أبيض، يقفز من فوق بطانية عالقة في يديها المتجعّدتين. يتجمّعن جميعاً أمام البوابة الأخيرة، وعلى مراحل، قبل اللحظات المنتظرة. يواسين بعضهن بعضاً بالأسئلة والابتسامات المتبادلة، أثناء التدقيق في هوياتهنّ، ثم يدخلن.
تخف لسعة البرد داخل الغرفة التي يُفترض أن تجمع السجناء بأقاربهم. غرفة التفتيش الخاصة بالنساء مضاءة، وتدخل إليها الأمهات لتفتشهنّ إحدى المتعاقدات مع قوى الأمن الداخلي، التي تستقبلهن بضحكة لطيفة وترتدي ثياباً أنيقة. تمنع الجدران الصلبة أصوات سكان مبنى المحكومين من التسلل إلى الدار، فيطغى الصمت المخيف لوهلة، كأن اللوحة الملوّنة على حائط الغرفة تختصر المكان. لا يقطع الصمت إلا إذن رجل الأمن المسؤول لأمّ بالدخول إلى القاعة. تتسمّر عيناها في البوابة الحديدية، فتدسّ عينيها الزائغتين في الفتحة الصغيرة، حيث المقاعد التي ستجلس وابنها عليها. تنتظر خروج أمّ أخرى ترافقها ابنتها. تطأ القاعة بلهفة، ويتسلّل معها طفل في الرابعة ممسكاً راحة يدها. تقذف بعينيها في أنحاء المكان، بحثاً عن طفلها الكبير. تشعر ابنتاها بقليل من الخجل، وتبعدان بأيديهما المصوّر حتى لا يلتقط لهما صوراً. «أول مرة أقابله وجهاً لوجه منذ أعوام» تقول الأم بفرح، وتعلن بسعادة: «لم أكن أعلم أنهم سيسمحون لي برؤيته». يلهو الطفل بعلبة تلوين حصل عليها للتوّ من مندوبي الأمم المتحدة في المكان، ويرسم خطوطاً متشعّبة، مستعملاً جميع أقلامه.
على مقعد آخر، من تلك المقاعد التي تشبه مقاعد الدراسة، تحضن أم أخرى أطفالها الأربعة، وتتشبّث بأحدهم جيداً. صُدمت هي الأخرى لكونها ستحتفل بعيد الأم مع زوجها، ولو لربع ساعة، لكنها سعيدة بأن اللقاء سيتخطى الحديث الهاتفي هذه المرة: «القبلة لا تصل عبر الهاتف، والشباك العازل يحجبها أيضاً» تحاول الإيضاح. وفجأةً، يدخل الأب. يقفز الطفل الشقي من حضن والدته، وتنهار دموع كثيرة من الجميع، على الخدّين المتطابقين في الاسمرار، خدّ الوالد وخدّ الطفل.
«معنا ربع ساعة فقط» توضح أم تجالس ابنها في منتصف القاعة، «لا تلومونا يا أولادي لكن الوقت لا يسمح لنا بالحديث للصحافة» تشرح لنا. كانت القاعة تغص بالورود، الورود التي أعدّها السجناء الأحداث، كهدية لزملائهم في مبنى المحكومين، كي يقدموها إلى أمهاتهم. أحد السجناء يتلعثم بشوقه في الطريق إلى القاعة، فيرتدي الزي النبيذي الخاص بالسجناء بالمقلوب، ولولا ممازحة أفراد الأمن له، لخرج بردائه كذلك. رجل آخر، ضئيل البنية، يشعر بالحياء بحمل وردة. ثمة صورة نمطية شائعة أن نزلاء السجن هم أشخاص خسروا عاطفتهم. يؤكد الرجل الصورة، ويسخر من زملائه الذين يحملون وروداً، فيشير إليهم بالحركات العفوية ممازحاً. لم يستطع أن يقاوم وجه والدته الدافئ: أطل برأسه ولمحها، فاستدار نحو إناء الزهور، خبّأ وردة خلف ظهره، وهرع نحوها كرجل يستعيد طفولته في خطوات متراصّة. يدخل القاعة سجين آخر أكبر سناً. يفرك شاربيه الكثيفين بيد، ويمسك زهرة صفراء باليد الأخرى. يشكر رجال الأمن بتهذيب ويأخذ مكانه إلى جانب أقاربه. لا يلبث أن يعود ويطلب من رجال الأمن السماح لخطيبة ابنه بالدخول ليتعرّف عليها، فيتساهلون في الأمر، ويسمحون لها بالتعرّف على والد خطيبها. تفرك الأم رأس ابنها بارتياح ظاهر، ويصبح المشهد عائلياً بامتياز. بيوت صغيرة ومتنقّلة في «دار الزيارات العائلية». بلغ المعدل حتى اليوم 60 مقابلة يومياً، ما يعني 60 عائلة في النهار، من ضمنها عشرات الأمهات. أمهات كثيراً ما طرقن أبواب رومية بحثاً عن رائحة أبنائهن.. وقد فُتحت أخيراً.
وهذه هي المرة الأولى التي تحصل فيها المقابلات هكذا، بلا شباك وجدران عازلة. انعكس الأمر إيجاباً على علاقة قوى الأمن بالسجناء بوضوح. لا مكبّرات صوت ولا صراخ في تلك الغرفة. وعلى عكس الأجزاء الأخرى من السجن، تحظى القاعة المذكورة بنظافة لافتة، إضافة إلى نظام تدفئة وتبريد. أكثر من ذلك، فإن انقطاع الكهرباء في السجن، لم يمنع استمرار الحياة في الدار، بعدما أجرى الصليب الأحمر الدولي إصلاحات كهربائية أساسية، ساعده على ذلك الموزع الكهربائي الذي وفّره مكتب مكافحة المخدرات والجرائم في الأمم المتحدة. يتعامل السجناء مع رجال الأمن كأنهم فريق عمل واحد، كلٌّ يؤدي مهماته بالشكل المطلوب. ويعينهم في ذلك وجود 3 موظفين من الأمم المتحدة دائماً، خلال دوام الزيارات (من التاسعة صباحاً حتى الثالثة ظهراً من كل ثلثاء وخميس وسبت). ويسهم الموظفون في تعريف الآتين والسجناء على الإرشادات، وتخضع الزيارة لقوانين الأصول والفروع، حيث يسمح للأهل بالزيارة، على مستوى العائلة الصغرى (أي الزوجة والأبناء أو الوالدين والأشقاء)، على أمل تعديل هذا القانون لاحقاً. ويأمل مكتب مكافحة المخدرات والجريمة في الأمم المتحدة أن يعتاد الناس اعتماد لفظة «زيارة»، بدلاً من مصطلح «المواجهة» الشائع. إحدى موظفات الأمم المتحدة التي تتولّى الحديث مع السجناء وتنظيم السجلات، أوضحت لـ«الأخبار» أن بعض السجناء رفضوا الحصول على بطاقة تخوّلهم مقابلة أهلهم، لأن لا أهل لهم، ولا تعرفهم سوى القضبان الصدئة في رومية. وأثناء شرحها عملية التعرف على السجناء عبر آلة كشف البصمة (التي تتعرّف على السجين وتقارنها ببطاقته)، لفتت إلى أن بعضاً منهم لم يأخذ الأمر بجدية في البداية. وفي لفتة تحسب للقوى الأمنية، أخبرت الموظفة قصة مؤلمة. تعرّف رضيع عمره خمسة وعشرون يوماً على أبيه منذ أيام، في النفق الذي يعبره السجناء في طريقهم للقاء أمهاتهم. النفق الذي يربط القاعة بمبنى المحكومين، بعدما كان مستودعاً، وصار ممراً إلى «الحرية المؤقتة».


النفق الأبيض

كلّف بناء وتجهيز قاعة الزيارات العائلية في السجن والنفق الذي يربطها بمبنى المحكومين نحو 50 ألف دولار أميركي، تكفّل به مكتب مكافحة الجريمة والمخدّرات في الأمم المتحدة.
النفق الذي يربط القاعة بمبنى المحكومين، كان مستودعاً، وقد نقلت أغراضه (البطانيات والفرش) إلى جوار غرفة المراقبة، التي تحوي بدورها شاشات عرض تتلقّى الصور من 4 كاميرات مثبتة بين القاعة والنفق الأبيض الجدران.
«الزيارات العائلية» جزء من مشروع «تطوير العدالة الجنائية في لبنان»، ضمن وزارة العدل وبالتنسيق والتعاون مع وزارة الداخلية والبلديات. ويفترض المشروع مكننة دائرة الأمانات والدوائر الأخرى. وكان قد انطلق العمل في هذا الجانب من المشروع وتقوم شعبة المعلوماتية في قوى الأمن الداخلي حالياً بتثبيت بعض البرامج التي أنتجتها.
كما يستوجب المشروع، تطبيق قانون تنفيذ العقوبات، الذي طالب السجناء بتطبيقه في أكثر من مناسبة. إذ يقضي الأخير بخفض مدة العقوبات على السجناء الحسني السلوك.