إيلي شلهوبما جرى خلال الأيام القليلة الماضية في ملف جلعاد شاليط مثير للحيرة والارتباك. صفقة تبادل تبدو من حيث الشكل والمضمون والتوقيت في مصلحة الجميع، إسرائيل و«حماس» والوسيط المصري، ومع ذلك لم تحصل. إيهود أولمرت بحاجة ماسة إليها، باعتبارها الإنجاز الوحيد الذي يمكن من خلاله إنهاء حياته السياسية بشكل مشرف، بعد الإخفاقات المتكررة التي ميّزت عهده، سواء في لبنان أو في غزة، أو حتى على المستوى الداخلي الإسرائيلي وملفات الفساد التي تلاحقه.
كذلك الأمر بالنسبة لبنيامين نتنياهو، الذي لا شك بأنه يُفضل تسلم السلطة محرراً من هذا الملف العالق منذ نحو ثلاث سنوات، من دون أن يكون هو من دفع هذا الثمن الكبير لإطلاق شاليط. وجيش الاحتلال التواق إلى إعادة هذا الأسير لما لهذه الخطوة من أهمية لتعزيز معنويات عناصره عبر تجديد التأكيد على أن «إسرائيل لا تترك جنودها».
وإن إبرام هذه الصفقة له بعد حيوي للدولة العبرية، يتعلق حصراً بصورتها لدى الرأي العام العالمي. تلك الصورة التي بلغت الحضيض مع عدوان «الرصاص المصهور»، والتي لا تزال عرضة للانتقادات مع استمرار الحصار المفروض على قطاع غزة. حصار تشترط تل أبيب عودة شاليط لرفعه، رغم الضغوط التي تتعرض لها للقيام بخطوة كهذه.
الأمر نفسه ينطبق على «حماس»، التي لا شك تدرك مدى المكاسب التي يمكن أن تحققها من صفقة كهذه: تحرير نحو 1400 أسير في مقابل «عريف». سواء لناحية تعزيز شعبيتها من خلال تقديم إنجاز بهذا الحجم للشارع الذي يعاني الأمرين، أو لناحية التأكيد على صوابية خيارها المقاوم وقدرته على استرداد الحقوق... حتى مع التعديلات التي أدخلتها الدولة العبرية على الصفقة، بمعنى الموافقة على إطلاق نحو 320 اسماً من لائحة الـ450 التي قدمتها الحركة الإسلامية والإصرار على إبعاد عشرات منهم.
أصلاً يُفترض أن «حماس» لم تكن تتوقع تحقيق مطالبها كاملة. على الأقل هذا ما تمليه قوانين التفاوض، التي غالباً ما تكون نتيجته في المنطقة الرمادية التي تفصل شروط الطرف الأول عن عرض الطرف الثاني. كما يُفترض أن ما قدمته إسرائيل أكثر من الحد الأدنى الذي يُفترض أن تكون «حماس» قد حددته لنفسها كسقف للقبول بالصفقة، وخاصة أن أسيرها ليس بتلك القيمة التي تغري برفع سقف المطالب أو التشبث بها. مجرد أن إسرائيل تركته في الأسر كل هذه المدة كافٍ لتأكيد ذلك.
بل أكثر من ذلك. يُفترض أن لـ«حماس» مصلحة في إنجاز الصفقة الآن، لسببين: الأول، لكي تحظى وحدها بفضل تحرير الأسرى، لا حكومة الوحدة الوطنية المزمع تأليفها. ثانياً، لأن عدم الانتهاء منها في عهد أولمرت سيرجئ البت فيها أشهراً، مع ما تحمله من مخاطر أمنية على حياة شاليط وما قد تحمله من تطورات ربما لا تكون في مصلحتها.
أما مصر، الطرف الثالث المعني بهذا الملف، فهي أيضاً معنية بإنجاز على المسار الفلسطيني يعزز احتكارها له ويساهم في تبييض صفحتها التي سوّدها سلوكها خلال عدوان غزة، وخاصة بعد تعثر ملف المصالحة الفلسطينية، الذي ترعاه أيضاً وتتوسط لحله.
حتى حركة «فتح»، التي لا شك بأن إطلاق «حماس» مئات الأسرى يثير استياءها، لها مصلحة استراتيجية في إبرام الصفقة، التي ستحرر أمين سرها في الضفة الغربية مروان البرغوثي مع ما يعنيه ذلك من رافعة تنتشلها من الحضيض الشعبي الذي بلغته.
كلها معطيات تطرح مجموعة من التساؤلات عن سبب بلوغ مفاوضات التبادل حائطاً مسدوداً والجهة التي تقف وراء ذلك.
صحيح أن المتضرر الأساسي من صفقة كهذه هو محمود عباس، الذي لا شك بأنه يفضل إمرارها في إطار حكومة وحدة، ما يجعل الإنجاز وطنياً لا حكراً على «حماس». كما أنه لن يكون مسروراً طبعاً من خروج البرغوثي مع ما يعنيه ذلك من منافسة على الموقع الأول في السلطة و«فتح». لكنه بالتأكيد أعجز من تعطيل التبادل، وإن كان لا بد مارس ضغوطاً على الوسيط المصري لهذه الغاية.
ورغم عدم استبعاد فرضية حصول عراقيل من نوع ما في إسرائيل ومصر، المشكلة على ما يبدو عند «حماس» التي يظهر أنها عجزت عن ترجمة الإنجاز الميداني لعملية الأسر على طاولة التفاوض. عجز مرده سوء تقدير لجهة الحد الأقصى المتوقع ثمناً لشاليط ولجهة الظرف الإسرائيلي والمتغيرات الداخلية في تل أبيب. يضاف إليه سوء إدارة للمفاواضات، عبر عنه كثرة المتحدثين من الحركة الإسلامية في هذا الملف، وتوّج بدخول قائد ذراعها المسلحة أحمد الجعبري مباشرة على الخط وانتقاله إلى القاهرة لإدارة الدفة بنفسه، مع ما يعنيه ذلك من هيمنة للعقل العسكري على العملية على حساب العقل السياسي أو الدبلوماسي.
وكأن «حماس» تفتقد للقادة المخضرمين القادرين على القيام بمهمة كهذه، أو أنها تعاني أزمة ثقة بين أقطابها في الجناحين العسكري والسياسي دفعت بالجعبري، مع ما يحمله من ثقل للمقاومة، على المخاطرة بنفسه والخروج إلى العلن للمرة الأولى من سنوات.