عقدت قوى 14 آذار يوم السبت الفائت مؤتمراً في «البيال» أعلنت فيه برنامجها الانتخابي تحت عنوان «العبور إلى الدولة»، وأكّدت عزمها على خوض الانتخابات النيابيّة المقبلة بلوائح موحّدة. فإلى أيّ دولة ستعبر قوى 14 آذار؟
أسعد أبو خليل*
توّج فريق ثوّار (حرّاس) الأرز مكاسبه في افتتاح مقرّ المحكمة الدوليّة عندما كتب هاني حمّود («المُقرِّر»، كما سمّاه وليد جنبلاط في لحظة صفاء واعتراض) أن الوطن عاد إليه. هل عاد الوطن إلى هاني حمّود في حقيبة جلدية؟ وهل يعود الوطن وقد تأبّطه الأمير مقرن؟ وعاد الوطن إلى قواعده سالماً عندما ربّت جورج بوش على كتف فؤاد عبد الباسط السنيورة. ويمكن أن يعود الوطن بزخم أكبر إذا تحقّق لفريق 14 آذار ما عجز عن تحقيقه رفيق الحريري: أي عقد سلام بين لبنان وإسرائيل ـــــ وإن روّج هذا الفريق لذلك بعناوين مُلتوية ومُواربة ومُخادعة، مثل «العودة إلى اتفاق الهدنة»، أو تحييد لبنان، أو الاهتداء بالمسلك السوري في تجنّب الصراع مع إسرائيل، أو في الدعوة إلى «الصراع الحضاري» الذي ما انفك السنيورة في خوض غماره ـــــ والنتائج في تحرير شبعا وتلال كفرشوبا والغجر على وشك أن تظهر في أية لحظة كما تبشّر نشرة «المستقبل السلفي» كل يوميْن. والوطن عائد، حقاً حقاً عائد، إذا تسنّى لفريق الحريري أن يسيطر على كل مقدّرات الدولة، وأن يُنصِّب الأمير مُقرن مشرفاً أعلى على الوطن، كما كان أبو جمال وغازي كنعان ورستم غزالة من قبل مشرفين على مسخ الوطن. والاحتفال بإطلاق البرنامج الانتخابي لـ14 آذار، وإن تمّ من دون إعلان أسماء، كان مهرجاناً لبنانيّاً بامتياز: أي أنه كان تقليداً مبتذلاً ونافراً للأصل الأجنبي: من «نورمبرغ» إلى احتفالات الحزب الجمهوري في عزّ شعبيّة بوش بعد 11 أيلول. وفارس سعيد الذي كان يجب أن يرفل بالأبيض، قام بالمهمّة على أكمل وجه، يعاونه في ذلك واحد من الصحافيّين الحياديّين في لبنان. وكل الصحافيّين حيّاديّون في لبنان، وخصوصاً فارس خشان وعقاب صقر (المحاضر في الأمسيات الحريريّة) وشارل أيوب (قبل اللقاء مع الأمير بندر بن سلطان وبعده). وفارس سعيد يمثّل حقبة السيادة أحسن تمثيل، كما كان يمثّل حقبة سيطرة النظام السوري أحسن تمثيل عندما كان يشيد بـ«سوريا الأسد». أما حضور باسم السبع فكان ضروريّاً لأنه يتكفّل قيادة الجماهير الشيعيّة الغفيرة المنضوية في تحالف آل الحريري. والسبع يمثّل الجناح المتطرّف في الحرص على السيادة في فريق الأكثريّة، وإن كان قد مشى عام 2003 في مسيرة «تأييد ومبايعة» لبشار الأسد متأبطاً ذراع رستم غزالة، الذي قد يطلّ يوماً علينا مثله مثل عبد الحليم خدّام داعياً ديموقراطيّاً.
وبصوت جهوري وثقة بالنفس أكيدة، قرأ سعيد برنامج فريق الحريري. والديباجة أتت مرتبكة في الصياغة لأنها توفّق بين أهواء مختلفة ومتنازعة: كيف يمكن أن توفّق، مثلاً، بين حرّاس الأرز (وهو فريق غير معلن في 14 آذار) وداعي الإسلام الشهّال وخالد ضاهر؟ وهناك المتناحرون بين المرشحين الموارنة، ولا سيما نسيب لحّود الذي تذكره الساحة الأميركيّة لدفاعه المستميت عن النظام السوري، حتى أنه كان يُقال إنه أفضل سفير سوري في أميركا. ووعد البرنامج الجديد بدولة «للجميع وفوق الجميع». تحتاج العبارة إلى تمعّن بالغ: أين هي هذه الدولة التي تعد أن تكون فوق الصراعات والمنازعات؟ هل استقى البرنامج مفهوم تلك الدولة من التعبير المثالي عن الدولة المثالية في كتاب «فلسفة الحق« لهيغل عندما عرّفها بأنها «تجسيد للفكرة الأخلاقيّة»؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، ألهذا رأينا نقولا فتوش ومروان حمادة وأمين الجميل بين الحضور لأنهم جسّدوا في ممارساتهم السياسيّة «الفكرة الأخلاقية» الهيغليّة عن بكرة أبيها؟ والهيئة العليا للإغاثة هي تحت سيطرة آل الحريري: هل تجسّد تلك الفكرة المثالية للدولة المنشودة؟ هل هي إيذان بما هو آتٍ؟ وإذا كان ماركس قد رفض زعم الدولة بأنها فوق صراع الطبقات (واعتبرها جهازاً لممارسة الصراع الطبقي)، فإن وثيقة كارل سعيد تعد بأن تكون الدولة حيادية إزاء الصراع الطبقي والطائفي على حدّ سواء. ولهذا كان يجب أن يدعو سعيد المطران الراعي والشيخ الجوزو إلى المنبر لأن كليهما أبعد ما يكون عن الطائفيّة والمذهبيّة. وترفض الديباجة فكرة «لبنان التابع»، مع أن أمين الجميل وصولانج امتهنا التبعيّة لإسرائيل، كما امتهن آل الحريري ووليد جنبلاط ـــــ في حقبة الغشاوة اللعينة فقط ـــــ التبعيّة للنظام السوري، وكما امتهن نسيب لحود التبعيّة للنظاميْن السوري والسعودي إلى أن وقع الشقاق، فانحاز للسعودي من دون أن تلعب المصاهرة مع الملك السعودي (ومن الرجال كثر في العالم العربي ممن تصاهروا مع الملك السعودي عبر السنوات والعقود) دورها هنا. ووصفت الديباجة خيار اللبنانيّين بأنه خيار بين «الازدهار» ـــــ أي نموذج دبي، قبل سقوطها طبعاً ـــــ و«هاوية التخلّف». وفكرة «التخلّف» لم تكن يوماً بعيدة عن السجالات الطائفيّة والمذهبيّة في لبنان، وكان يمكن زعيم الشيعة في 14 آذار أن يحذّر فريقه من مغزى تلك الفكرة لكنه ربما خشي أن يُتهم هو نفسه بالتخلّف.
والتخلّف سمة تبرز أكثر ما تبرز في من يُجاهر بالعداء لإسرائيل، لأن الحضاريّة تحرص على محبّة الآخر المُحتل وتقديم الحلوى والشربات له، كما فعل أحمد فتفت، وإن برّأ نفسه بنفسه في تحقيق أجراه بنفسه، ونوّه بنفسه. وفكرة الكميّة والنوعيّة (أي منطلق وعد بلفور) وفكرة وصف حشود الطرف الآخر بـ«الغنم» تتماثل مع فكرة «التخلف». و14 آذار هي قبل كل شيء «مودرن» وعلى «الموضة»، والتماشي مع الموضة في بلد مثل مسخ الوطن أهم بكثير من تحرير الأرض أو الدفاع عن الشعب في وجه الاجتياحات. ويرفض البيان الذي يذكّر بصياغات طارق عزيز للبيانات البعثية الصدامية في السبعينيات، انخراط لبنان في أي «نزاعات إقليميّة». وهذا قول حق لأن الأمانة تقتضي تسجيل نقطة ـــــ أو حقيبة مالية ـــــ لمصلحة فريق الحريري بأنه نأى بنفسه عن النزاعات الإقليميّة تماماً. وحرص هذا الفريق على الحياد التام عندما استفحل الخلاف بين سوريا والسعودية أو بين قطر ومصر. وعندما جال سعد الحريري مُرافقاً للأمير مقرن فإنه لم يفعل ذلك إلا من أجل الحياد والتنزيه والموضوعيّة الاستخباراتيّة.
ثم يُدرج البيان 14 بنداً، والرقم 14، لمن لا يلاحظ، هو الرقم نفسه في اسم الفريق، وهنا الطرافة والظرف والإبداع. هل الفكرة لـ«ساتشي وساتشي» أم لشركة «كوانتم» التي تتخصّص في دعوة الصهاينة الغربيّين إلى بلد الأرز ليشيدوا بثورته؟ والبند الأول أراد أن يسجل، رفعاً للعتب، «شيئاً» ما عن إسرائيل فتحدّث عن «حماية لبنان» من الاعتداءات الإسرائيليّة، لكنه عاد ونفى الأمر عندما طالب في بند آخر بنزع السلاح من المقاومة في لبنان، باستثناء ميليشيا محمد الحسيني المدعومة سعودياً. أي أن هذا الفريق يريد حماية لبنان عبر الاعتماد الحصري على عربات «الهامفي» المُستعملة التي توفّرها الحكومة الأميركيّة للبنان، فكانوا لها شاكرين. ولم يوضّح البند طبيعة الحماية لكنه تحدّث عن «استرجاع»، والكلمة مُنتقاة بعناية لأن كلمة تحرير لم تعد حضاريّة عندهم، كما أنها قد تتضمن معاني عنفية تتقزّز منها صولانج الجميل ودوري شمعون وسمير جعجع وجورج عدوان، أي هؤلاء الذين واللواتي لم يُخلصوا لحليف كما أخلصوا لإسرائيل. لكن البند يفسّر كيفيّة الاسترجاع عبر المطالبة بتنفيذ القرار 1701، مع أن القرار لا يُلزم إسرائيل أبداً بالانسحاب من شبعا. هنا، يمكن الاستخلاص أن فريق الحريري قرّر متكرِّماً أن يهب إسرائيل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا سعياً وراء حسن الجوار. والبند الثاني يدخل في إطار طمأنة العدو عبر التشديد على ضرورة ألا يكون في حوزة لبنان أكثر من عربات «الهامفي»، بالإضافة إلى الطائرتيْن اللتيْن ألهبتا عقول شعب لبنان في احتفال الاستقلال الرمزي عام 2008.
والحرص على السيادة هو الذي دعا أقطاب هذا الفريق إلى دعوة سوريا للتوقّف عن التدخّل في شؤون لبنان. أما استجداء التدخل السوري لسنوات من قبل جنبلاط ورفيق الحريري لمصالحهما السياسية والطائفيّة الضيّقة فقد دخل في التاريخ السحيق ويمكن أن يُدرج في فصل العصر الحجري في كتب تاريخ لبنان. وفريق الحريري كان حريصاً منذ اغتيال رفيق الحريري على عدم التدخل في الشؤون السورية، بالرغم من دعوة جنبلاط الدروز في سوريا إلى اغتيال بشار الأسد ودعوته أميركا لإرسال سيّارات مفخّخة إلى دمشق، وبالرغم من تمويل الحريري لفصائل في المعارضة السورية ـــــ الديموقراطية على شاكلة عبد الحليم خدّام والإخوان المسلمين. ومن الظريف أن الفريق الذي ارتهن في أكثره ومدى عقود للنظام السوري (في عهد الأب والابن) كرّس فقرة مستفيضة للخطر السوري في لبنان، مع أن الإشارة إلى التهديد الإسرائيلي كانت عابرة فقط. لكن هذا هو بيت القصيد: فهذا الفريق يريد ولا يريد أن يصرّح وبواضح العبارة أنه لا يكنّ العداء لإسرائيل. وليد جنبلاط صرّح للصحافة في يوم إطلاق برنامج ثورة (حرّاس) الأرز الانتخابي بأنه من الصعوبة بمكان توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل بسبب «التوازن» الطائفي، وكأن طائفة واحدة فقط تكنّ العداء لإسرائيل. ولماذا تتحدّث الوثيقة البونابرتيّة عن ضبط الحدود بين سوريا ولبنان من دون الإشارة إلى الحدود بين لبنان وإسرائيل وهي تتعرّص لخرق جوّي وبرّي وبحري على يد العدوّ الإسرائيلي؟ لكن البند يؤكّد «إنهاء الخلاف مع سوريا»، والصدفة وراء التزامن مع المصالحة السعوديّة ـــــ السوريّة، والصدفة كانت وراء القرار السعودي المفاجئ الذي أتى بعد أسابيع فقط من انتهاء عهد بوش.
يريد المرء أن يعرف القلم الذي خط هذا البيان: من، مثلاً، اختار أن يشير إلى «الانسجام بين لبنان والمجتمع الدولي»؟ هل هذه تورية؟ وكيف يتمثّل هذا الانسجام؟ عادة، نتحدّث عن الانسجام بين زوجيْن، لكن أن يصل الأمر بفريق ثورة (حرّاس) الأرز إلى المطالبة بالانسجام يعني أن المنشود جلسة رومنطقيّة مع فريق إسرائيلي كما فعل أنطوان فتّال (الذي كان يجب أن يُفرض عليه كتابة مذكّراته لدوره المُشين في مفاوضات 17 أيار، وهو مؤلّف كتاب استشراقي بغيض ـــــ بالفرنسيّة فقط ليأخذ راحته في الحديث ـــــ عن وضع غير المسلمين في الدول الإسلاميّة) في عهد الواعظ أمين الجميّل. وكيف يقيس «المجتمع الدولي» هذا الانسجام؟ هل بمنح عدد من الصهاينة في أميركا دروع (حرّاس) الأرز؟ أما عبارة «المختبر العالمي» للحوار فهي تهديد لبناني بإعادة تمثيل حفلات المجازر والقتل الطائفي والمذهبي التي هي وحدها مسؤولة عن شهرة لبنان العالميّة.
لكن ثوار (حرّاس) الأرز عروبيّون، إذا كانت العروبة تعني الولاء التام لأوامر أبو متعب والأمير مقرن العروبي الخالص. ودور لبنان العربي مَثّله منير الحافي عندما قدّم كتابه الدعائي عن الدور السعودي في لبنان للملك السعودي في حفل خاص أثناء مهرجان الجنادريّة الذكوري. وهذا النسق من العروبة ينسجم ـــــ لنستعمل تلك العبارة مرّة أخرى ـــــ مع تطلّعات أنطوان لحد وجورج عدوان ودوري شمعون. ويدعم البيان «نضال الشعب الفلسطيني»، على أن يكون خاضعاً للإشراف المباشر لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أُعيد إحياؤها فقط بعدما خسرت حركة فتح الشرعيّة الانتخابيّة وارتأت أن تستعين بشرعيّة غير مُنتخبة. وهذا البند يقول بصريح العبارة إن فريق آل الحريري يدعم عصابات محمد دحلان وتوجيهات الجنرال دايتن. ويريد البيان نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وكان على فريق جنبلاط أن يضيف أنه يشكر مساهمة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات في معارك الحزب التقدمي الاشتراكي عبر السنوات. وتدعم الوثيقة مبادرة السلام العربيّة بعد إسقاط اسم المؤلف توماس فريدمان عنها. وتضيف الوثيقة كلاماً عن مواجهة «التطرّف»، ومن المؤكد أن فعالية هذا الفريق في مواجهة التطرّف عالية، وخصوصاً إذا ما استُعين بسلفيّي الضنيّة وفكر «هيئة كبار العلماء» المُزنّرة بعقيدة ابن باز. أما الالتزام بمنع التوطين فلا علاقة له بحق العودة، لأن مبادرة توماس فريدمان لا تتضمن إشارة إلى حق العودة وإن تضمن نسقٌ مُعدّل منها إشارة مبهمة من باب رفع العتب. وعندما يتحدّث معسكر 14 آذار أو معسكر 8 آذار عن منع التوطين فهما يعنيان طرد الفلسطينيّين من لبنان لأسباب تتعلق بمصالحهما الطائفيّة الضيّقة، مع العلم أن ميليشيات في طرفي المعسكريْن خاضت حروباً وحشيّة ضد مخيّمات اللاجئين في لبنان. هم بذلك يكملون ما كان بشير الجميل ـــــ هتلر لبنان الصغير ـــــ ينوي فعله.
ولا ينسى البيان أن يُشيد بخروق السيادة القضائيّة والعسكريّة والسياسيّة والاقتصادية التي احتضنها فريق عائلة الحريري في لبنان. لكن الوثيقة تؤكد أن المحكمة الدولية ستنهي الاغتيال. ووفق هذا المنطق، فإن محاكمة المجرم تُنهي الجريمة إلى الأبد. يبدو أن نادر الحريري ومستشاريه يحتاجون إلى دروس في مبادئ المنطق الأوليّة. ويريد هذا الفريق أن يوفر المال «اللازم» لعودة المهجّرين: أي أن عهد «الزنقة» قد ولّى إلى الأبد.
والبيان يعود ليتحدّث عن حبهم للدولة وعن ضرورة بنائها. وفي اللغة المُشفّرة لهذا الفريق لا يعني هذا إلا تسلّط آل الحريري والأمير مقرن بن عبد العزيز على كل مقدّرات الدولة ونشر الفساد والرشوة على نطاق واسع في كل إدارات الدولة وفي كل قطاعات المجتمع: أي إكمال ما كان قد بدأه رفيق الحريري. وهل هناك من يمثّل الدولة المدنيّة أفضل ممّن تولّى لعقد أو أكثر شؤون صندوق المهجّرين؟ وهل هناك من يساهم في بناء مفهوم الدولة المدنيّة المتحرِّرة من التقاليد البالية أكثر من مطران ثورة (حرّاس) الأرز، عنينا بشارة الراعي الذي استقى مفاهيم من القرون الوسطى ليحمي ثورة (حرّاس) الأرز من أعدائها؟ وهل التهديد بالاستعانة بـ«الحرم الكبير» إلا من باب بناء الدولة المدنيّة لبنة، لبنةً؟ ومطاردة السحرة، والمشعوذين، وعبدة الشيطان، وشهود يهوه هي أيضاً دليل قاطع على حرص فريق ثورة (حرّاس) الأرز على الحضاريّة وعلى المدنيّة، فانعم يا لبنانيّون ولبنانيّات. ومثقفو 14 آذار أُعجبوا أيما إعجاب بمفهوم «الحرم الكبير» واعتبروه سنداً لنشر الثقافة الحديثة في البلد. أما موضوع الدين العام الذي يتحمّل مسؤوليّته بصورة أساسيّة رفيق الحريري وفؤاد السنيورة فقد تضمنّت الوثيقة حلاًّ جذريّاً له. هاكم الحلّ: الدعوة إلى «وضع برنامج فعال لإدارة الدين العام». وهذا الحلّ ينهي السجال حول موضوع الدين العام ويجب أن يخرس كل من يتطرّق إلى الموضوع بعد اليوم. ولو فكّرت فيه دول العالم الثالث (نسينا أن راشد فايد يرى أن بعض لبنان دخل في «العالم الأول» وتماهى مع الرجل الأبيض) لكانت المديونية العالميّة والخلاف بين الشمال والجنوب قد انتهيا إلى غير رجعة. ولكن كان لافتاً خلو الوثيقة من أية إشادة بسياحة الدعارة، التي تمثّل صلب برنامج الحريري الاقتصادي.
قد يكون البند المُتعلّق بالمرأة هو أكثر البنود غرابة. لم نكن نعلم أن آل الحريري وحاشيتهم السياسية مهتمون في حدّ أدنى بمواضيع المرأة وتحريرها، كما حرّر السنيورة... الرغيف. ثم ألم يتسنّ للسنيورة الحكم مفرداً مستعيناً بدعم من عنده ومن السفير فيلتمان؟ لماذا لم نجد آثاراً لهذا الاهتمام بالمرأة في مشاريع الحكومة السابقة والحالية؟ ولاحظنَ أن هذا البند لا يكلّف قرشاً ولا يتضمّن التزاماً محدّداً، وهو على الغالب من نوع النسويّة الاستعمارية: أي استغلال مواضيع المرأة لغايات سياسية أو استعماريّة مثلما فعل اللورد كرومر في مصر. (هذا النوع من الاهتمام بالمرأة برز في مقابلة جيزيل خوري مع مطلّقة ساركوزي حيث لم يحد الحديث عن السياق الاستشراقي الغربي المبتذل الذي يعتبر أن تحرير المرأة العربيّة يتحقق عندما ترتدي المرأة العربيّة آخر «صيحات الموضة» الغربيّة). ومن سيتولّى ملف «تمكين» المرأة اللبنانيّة؟ خالد ضاهر؟ المفتي الجوزو؟ أم البطريركيّة المارونيّة التي لا تتورّع عن اجترار كلام استشراقي تقليدي عن وضع المرأة في الإسلام وكأن الكنيسة أنصفتها؟ وهل يكون تمكين المرأة بدعوة صولانج الجميّل (من دون أن تكون حليقة الرأس مثلها مثل تلك النساء الفرنسيات اللواتي تعاملن مع الاحتلال النازي) إلى المنصّة الرئيسية خلال الاحتفال لتكريمها لأن لبنان يفخر بإعدادها الأطعمة اللبنانيّة لأرييل شارون في عام 1982 وما قبل؟ وهل يريد آل الحريري أن ينقلوا نموذج تمكين المرأة الوهابي، وخصوصاً أن فكر ابن باز يرشد مُرشد مُرشد سعد الحريري؟
ولم تنس الوثيقة الموقّرة مسألة البيئة، فكلّفت نقولا فتوش أن يكرّس خبرته الكسّاريّة للحفاظ على البيئة، كما أن أكرم شهيّب يستطيع أن يستعين بجماهير حزبه البيئي لهذه الغاية أيضاً. وتسلسل البنود في البيان، مع تكرار في المضامين والشعارات، بدا كمن رقّع وجمع على عجل للتوفيق بين جناح السلفيّة الإسلاميّة وجناح السلفيّة الكتائبيّة في 14 آذار. والتغريد خارج السرب من سمات المعسكريْن، ووليد جنبلاط يزهو باشتراكيّته هذه الأيام ويُهلِّل لـ«انهيار» الرأسمالية ويدعو إلى التأميم، مع أنه عضو في فريق عمل سعى منذ وصول رفيق الحريري إلى السلطة لتخصيص الماء والهواء والشاطئ والقضاء والحدود. والسعي نحو الانتخابات لا يعكس إلا جانباً من الحياة السياسية الداخليّة، لأن الصراع الإقليمي ظاهر حتى في التحضير للانتخابات. نحن في بلد كان تيري لارسن ـــــ مندوب الصهيونيّة العالميّة في مجلس الأمن والعين الصهيونيّة على الأمين العام ـــــ يبحث فيه في اللوائح والقوانين الانتخابيّة مع زعماء لبنان. نحن في مسخ وطن يُقرّر فيه مسؤول حكومي أميركي (أو سوري في حقبة سابقة) موعد الانتخابات النيابيّة ومقاييسها.
والمُعسكران سيتقابلان وقد يتفقان تحت الطاولة أو فوقها. والعدل الاجتماعي غائب عن اهتمام الفريقيْن ـــــ العداء نحو (أو تجاهل) الفقراء يجمع الخصوم ـــــ ومشروع الصلح مع العدو الإسرائيلي سيفرضه على لبنان التحالف الأميركي ـــــ السعودي ـــــ الإسرائيلي وبرضى سوري، وخصوصاً أن بشار الأسد عبر عن عزمه على جرّ حزب الله وحماس إلى مفاوضاته مع إسرائيل. وهناك مُلصق من عام 1977 للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين يقول: «السادات يخون الوطن: أنت مطالب بالردّ». ويمكن القول اليوم: إن صلحاً مع العدو سيُفرض على لبنان: أنت مطالب بالردّ.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)