عبدالله نزيه البني*«أناشد جنود الجيش وضباطه أن يمتنعوا عن تأدية الخدمة العسكرية لأن جيش إسرائيل تحوّل إلى منظمة إرهابية...وإذا كانوا ينكرون حدوث المجازر، لماذا إذاً ألّفوا لجنة للدفاع عن الجنود والضباط!!»، هذا الكلام ليس لأحد قادة حماس أو حزب الله، بل هو لطيار إسرائيلي سابق رافض للخدمة يدعى «يوناتان شابيرا».
جاء هذا الحديث للطيار الإسرائيلي ضمن فيلم بعنوان «لائحة الاتهام» من إنتاج قناة الجزيرة عرض قبل أيام..
لقد هالت «يوناتان» مشاهد المجازر وأشلاء الأطفال في حرب غزة الأخيرة مثله مثل ملايين الناس حول العالم الذين تحولوا إلى شهود عيان على جرائم وحشية دخلت بيوتهم عنوة وعلى الهواء مباشرة..
خلال الحرب، ثار العالم الحر وعلت ملايين الأصوات الغاضبة، ولم يقبل المتظاهرون بأقل من محاكمة القادة الصهاينة أمام محكمة الجنايات الدولية، لارتكابهم جرائم حرب وإبادة ضد الشعب الفلسطيني. ولم تكد تخمد نار الحرب على غزة حتى خمد معها معظم الأصوات ونضب الحبر وشحّ الدعم.
عاد القادة العرب إلى قممهم التصالحية الصورية، وأعدّوا المؤتمرات الدولية مع قيادات أوروبا وأميركا لإعادة إعمار غزة، منهم من كان يحسن النيّات ومنهم من كان يكفّر عن خطايا تواطئه المباشر وغير المباشر، وآخرون كثر كانوا يكفّرون عن صمتهم المقصود على ما جرى..
لكن هل يعقل أيضاً أن ترفع دعاوى ضد إسرائيل ولا يتجرّأ أحد من الدول العربية أو أثريائها على أن يموّل ويدعم هذه الدعاوى مادياً لكي تستمر حتى النهاية، أو على الأقل حتى يقتنع المدّعي العام بوقوع جرائم حرب ويأمر بفتح تحقيق ميداني.
خلال إنتاجي لفيلم «لائحة الاتهام» تابعت مسار الدعاوى المقدمة ضد إسرائيل. وفي لاهاي، حيث مقر محكمة الجنايات الدولية، وبالتحديد في مكتب المدّعي العام لويس مورينو أوكامبو، اعتاد موظّفو قسم المعلومات والدلائل رؤية وجوه قانونية تزورهم شهرياً لمتابعة دعاوى مرفوعة ضد قادة إسرائيل. هذه الوجوه هي لمحامين عرب وأوروبيين تتقدمهم المحامية اللبنانية مي الخنسا، التي ترأس «منظمة التحالف الدولي لمكافحة الإفلات من العقاب ـــــ حقوق» وهو تحالف أنشئ بعد حرب العراق عام 2003 لملاحقة القادة الأميركيين أمام المحاكم الجنائية لارتكابهم جرائم حرب ضد الشعب العراقي. باكورة نشاط المنظمة دعوى ضد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش تحمل الرقم واحد في سجلات محكمة الجنايات، حيث تقوم المحامية الخنسا وزملاؤها في المنظمة باستمرار بإضافة أدلة جرمية جديدة على ملف الدعوى.
الملف الأكبر الذي قُدّم للمدّعي العام هو دعوى جرائم غزة، حيث تتهم المنظمة 100 شخصية سياسية وعسكرية إسرائيلية وأميركية وبريطانية، كلها متشاركة فيما بينها أو بطريقة فردية في ارتكاب جرائم حرب مباشرة أو بتواطؤ متعمّد.
يتصدّر لائحة المدّعى عليهم من الإسرائيليين إيهود أولمرت وإيهود باراك وتسيبي ليفني وغابي أشكينازي ويوفال ديسكن، ثم يليهم أكثر من سبعين ضابطاً وقائداً للوحدات البرية والجوية والبحرية والاستخبارات في الجيش الإسرائيلي.
أما المدّعى عليهم من أميركا وبريطانيا، فيتصدّرهم جورج دبليو بوش وروبرت غيتس وكوندوليزا رايس، إضافة إلى رئيس وزراء بريطانيا غوردن براون ووزير خارجيته ديفيد ميليباند ووزير دفاعه جون هيوتن.
شملت الدعوى بريطانيا لأنها من الدول الموقّعة على نظام محكمة الجنايات الدولية، وتعتبر من الدول الأوروبية الكبرى التي تدعم إسرائيل سياسياً وعسكرياً، وخاصة أن شركات بريطانية تصنع الأجزاء الأساسية لطائرات أباتشي وقذائف المقاتلات الحربية أف15 وأف16، وهي الطائرات التي استخدمت في عمليات قتل واغتيالات إرهابية ضد المدنيين، حسب ما أُدرج في الدعوى.
تتضمن الدعوى تعداداً مفصّلاً وشهادات عن الضحايا والجرحى والدمار وعن الأسلحة المحرّمة دولياً والأسلحة الجديدة الفتاكة التي استخدمتها إسرائيل، كالفوسفور الأبيض والقنابل الإبرية المخترقة للملاجئ التي يرجّح الخبراء احتواء رؤوسها على اليورانيوم المنضّب لزيادة الاختراق، هذا بالإضافة إلى قنابل «الدايم» التي تحتوي على مادة التانغستين التي تسبّب شظاياها المجهرية تقطيع الضحايا إلى أشلاء.
وتبيّن لي أيضاً أن دعوى منظمة «حقوق» تحظى بأولوية واهتمام لدى مكتب المدّعي العام، وأن التحقيقات قطعت شوطاً مهماً، حيث قامت مديرة المحكمة «بياتريس دي هيلين» بالتدقيق في كل مستند وصورة، مبدية إعجابها بالأسلوب المهني والقانوني في تقديم الأدلة. لكن تبقى بعض القرارات النهائية سياسية بامتياز رغم أن المحكمة تحاول النأي بنفسها عن ذلك.
وحتى يقتنع السيد أوكامبو بالأدلة وبوجود جرائم حرب، يقوم المحامون برفع دعاوى أمام المحاكم الوطنية الأوروبية في حالة تمتّع أحد الضباط الإسرائيليين المتهمين بجنسية أخرى أوروبية، وهذا ما قامت به مَي الخنسا وزملاؤها في محاكم إسبانيا وبلجيكا.
لكن هذه الجهود والمتابعات التي بدأت تثمر، أصبحت مهددة بسبب اصطدامها بعائق التمويل والدعم المادي، إذ إن المحامين من أوروبا يحتاجون إلى وسائل دعم لوجستية لانتقالهم، ومعظمهم يترك عمله الخاص مؤقتاً من أجل إيمانه بضرورة محاكمة إسرائيل وقادتها.
إحدى المحاميات في المنظمة، وهذا ما علمته من تحقيقاتي الخاصة، باعت بعض ممتلكاتها من أجل تغطية مصاريفها ومصاريف المحامين الأوروبيين والاستمرار في متابعة القضية، وهي تعتمد على متطوّعين أصدقاء لتزويدها بصور وأفلام الجرائم، وهي مصرّة على الوصول بالدعوى حتى النهاية.
بالأمس فقط، بيعت سجادة هندية مرصّعة بالألماس بمبلغ خمسة ملايين ونصف المليون دولار فقط، وذلك ضمن مزاد أقيم في إحدى دول الخليج.
لقد ارتاح كثير من المسؤولين العرب لاعترافات الجنود الإسرائيليين الأخيرة بتعمّدهم قتل المدنيين الفلسطينيين. ارتاحوا معتبرين أن الكرة عادت إلى ملعب إسرائيل، وأن التهمة جاهزة بأدلتها الإسرائيلية من دون جهود عربية قضائية رسمية ومادية في لاهاي..
ألا يدرك هؤلاء أن تسريب مثل هذه الاعترافات «المقنّنة والمدروسة»، رغم خطورتها وأهميتها كدليل جرمي، هي مجرد «تنفيس مقصود» موجه إلى المجتمع الدولي برسالة مفادها «أن إسرائيل دولة شفافة وديموقراطية تحاكم جيشها بنفسها، وأن هذه الجرائم التي يتحدث عنها العالم هي مجرد تجاوزات فردية لن تؤثر على صورة (الجيش الأخلاقي)، وأنّ كلّ من قُتل من المدنيين كان في إطار الدفاع عن النفس..؟».
في غزة وحدها أكثر من 1400 شهيد، بينهم 460 طفلاً و110 نساء و123مُسنّاً وأكثر من 5500 جريح، بمن فيهم 1600 معوق دائم، 100 ألف مشرّد ودمار كلّي وجزئي أصاب 21 ألف منزل.
أسقطت إسرائيل على غزة قرابة مليون ونصف مليون طن من الذخائر والصواريخ «المحرمة والمحلّلة» فوق رؤوس مليون ونصف مليون نسمة، أي ما يوازي طناً من البارود لكل مواطن فلسطيني.
العقيدة القتالية وقواعد الاشتباك في الجيش الإسرائيلي يخضعان لما يسمّى «مدوّنة القتال الأخلاقي ضد الإرهاب». وقد وضع المدوّنة سنة 2003 الفيلسوف الإسرائيلي «آسا كاشير» وامتدحها «غابي أشكينازي» بعد حرب غزة، وتقوم مبادئها الثلاثة على تحقيق الهدف أولاً وحماية الجنود ثانياً وفي الأخير حماية المدنيين!!
هذا ما يبرّر اعترافات الجنود بقتل مدنيين بذريعة حماية أنفسهم، وبأن كلّ ما يتحرك هو هدف إرهابي مشروع كما أمرهم قادتهم..
*كاتب ومخرج لبناني