«Dans Le Noir» ليس عنوان عمل أدبي أو فني، إنه اسم مطعم باريسي يقترح على رواده أن يعيشوا تجربة حياتية بسيطة... في الظلمة، أن نأكل في الظلمة ممارسة تدعونا إلى استنفار كل حواسنا، إلى تأكيد قدرتنا على التفرقة بين مذاقات متنوعة، وأن ندرك كيف يعيش فاقدو النظر

باريس ـــ جلنار واكيم
«لا وجود للظلمة بل للجهل»/ وليم شكسبير هل سمعتم بمطعم «في الظلمة»؟ كانت صديقتي التي تهوى المغامرات متحمسة لعشاء لذيذ في مطعم باريسي اسمه «Dans Le Noir»، كانت تردد سؤالها في ما يشبه الإلحاح، «إنه مطعم نأكل ونشرب فيه في ظلمة مطلقة». التجربة مغرية، الكلام الذي تردد على مسامعي ومسامع صديقات أخريات صار أشبه بإغواء.
ساد الصمت في ما بيننا، صديقاتي لم يعرفن يوماً معنى العيش في الظلمة، فقد كبرن في بلدان أوروبية لم تجرب التقنين الكهربائي إلا خلال الحرب العالمية الثانية، وصديقاتي سمعن عن هذا التقنين من خلال روايات أجدادهن. أما أنا، فقد أُرغمت على معايشة الظلمة في لبنان رغماً عني. فهل أختار أن أدخلها عمداً؟
باختلاف تجاربنا، توجهنا أربع صديقات إلى المطعم واخترنا العشاء في الظلمة. في الطريق، كنت أفكر بهذه الظلمة التي رافقتني في طفولتي رغماً عني. كان يخرقها دوماً ضوء شمعة أو اللوكس. ولكن الظلمة المطلقة كانت تذكرني بصديقي حسن غملوش، صديق لم يعرف النور يوماً. كان حسن يأتي كل ثلاثة أو أربعة أشهر إلى منزلنا لـ«يدوزن» البيانو. يصل إلى المنزل وحيداً، يقرع الباب، يلقي تحية، ثم كنت أرشده إلى البيانو. كنت أحب أن أراقبه وهو يعمل...
وصلت إلى المطعم وصورة حسن لا تفارق ذهني. كنت أفكر بأنني، على آلاف الكيلومترات، سأعيش للمرة الأولى تجربة شخص رافق طفولتي.
ما إن دخلنا المكان حتى أحسسنا بثقل الجو المحيط. الستائر سميكة تحجب الضوء والصوت معاً. حتى تلك اللحظة، كان بإمكاننا أن يرى بعضنا الآخر، فرأينا التردد في وجوهنا. هل نبقى أم نذهب؟ ثم سمعنا صوت استقبال «أهلا بكم في هذه التجربة الفريدة.» جاء أحد المرشدين ليطمئننا. أضاف: «سنعطيكم الإرشادات اللازمة قبل أن تدخلوا إلى المطعم. الرجاء ترك كل أغراضكم التي لا تحتاجون إليها. الرجاء ترك المحفظات لأنكم لن تتمكنوا من إيجادها في الظلمة»، ثم أوقفنا أحد أعضاء فريق الاستقبال، وهو مرشد مكفوف، وراء بعضنا بعضاً، ونزلنا إلى صالة المطعم.
كيف أصف المكان؟ اعتدت أن أرى ما حولي كي أصفه. كل شيء كان مظلماً تماماً. أُجلسنا إلى مقاعدنا، كل بدوره. شعرنا بالراحة لبلوغنا الهدف الأول. ولكن سرعان ما ساد صمت فظيع... كما لو أننا بتنا لا نجيد الكلام لأننا فقدنا الرؤية. لاحظت كم أننا نتكل على حاسة النظر على حساب الحواس الأخرى. ثم بدأنا نتكلم تدريجياً، ننطق كلمة بعد أخرى، نكرّس هذا الصمت الثقيل في الظلمة. كنا نعيد اكتشاف أصواتنا، ثم كنا نكتشف الآخرين من خلال أصواتهم. كانت أصواتنا خافتة ودافئة. وأنا أتذكر «هكذا كان صوت حسن، هكذا كان يتكلم». ثم بدأنا باكتشاف أصوات قريبة لم نكن نعرفها. فإلى طاولتنا جلس أناس آخرون أيضاً. وبدأنا نتشارك التجربة التي كنا نعيشها. كان بعضنا يستمع إلى الآخر دون أن يقاطع أحدنا الآخر. كان كل منا منفتحاً أكثر على الآخر، يركز ليسمعه ويحاول أن يتعرف إليه.
حان وقت الطعام. سمعنا النادل يقاطعنا ليسألنا عما نريد. الاقتراحات: وجبة حمراء لمحبي اللحوم ووجبة خضراء للنباتيين و«مفاجأة» لمن يحب أن يعيش «هذه التجربة حتى الآخر». هنا لا يعرف المرء ماذا سيأكل. الطاهي يقدم أطعمة تجبر الزبون على إعادة النظر بكيفية استعماله حواسه. صاحب المطعم يؤكد أن الكثيرين يتكلون على حاسة النظر لتمييز ما يأكلونه. في مطعم «الظلمة»، غالباً ما يخطئ الزبائن بين طعم الدجاج وسمك الكابييو، وآخرون لا يميزون طعم النبيذ الأبيض من النبيذ الأحمر، رغم الاختلاف الهائل في المذاق الخاص بكل نبيذ. تعود قصة هذا المطعم الباريسي إلى عام 2004. ففي 14 تموز، افتتحه إدوار دو بروغلي (غير مكفوف) وإتيان بوارون (مكفوف). كان دو بورغلي قد عمل مع مؤسسات للمكفوفين في سويسرا، وكانت تلك المؤسسات تنظم حفلات عشاء للمكفوفين، فأراد إدوار أن يحمل التجربة إلى من لا يعانون هذه المشكلة في حاسة النظر. ومنذ ذلك اليوم، تناول أكثر من 140 ألف شخص الطعام في ظلمة مطلقة. يعمل في المطعم 10 مرشدين مكفوفين، يتولون تقديم الطعام. كما يعمل فيه عدد من الموظفين والطهاة غير المكفوفين. بالإضافة إلى تقديم الطعام، ينظم المسؤولون سهرات للقراءة وحفلات موسيقية ولقاءات تعارف تحصل كلها في الظلمة. وبعد باريس افتُتح مطعم آخر في لندن ثم في موسكو ونيويورك.
خلال العشاء واجهتنا بضع صعوبات. فقد حرص منظمو المكان على عدم تأمين الراحة المطلقة للزبائن، بل تركونا نعيش التجربة كما يعيشها المكفوف في حياته اليومية. كان علينا أن نجد، في العتمة، الخبز على الطاولة وأن يسكب بعضنا الماء والنبيذ للآخر. أحياناً كان بعضنا يخطئ الحركة، فتمتد يده نحو صحن آخر.
ثلاث ساعات مرت ونحن نأكل ونشرب ونتحدث في الظلام. ثلاث ساعات كانت كافية كي نعيش تجربة خاصة جداً. تجربة الدخول في عالم معتم مخيف، إلى العلاقات التي بدأت تتركب على المائدة. كان هناك تطور حقيقي حدث. في البداية كنا أمام تجربة غريبة، وفي النهاية أحسسنا بأننا مررنا بتجربة إنسانية بحت. في هذه الظلمة شاركنا أناساً من حولنا حياة يعيشونها طوال الوقت. فجأة وفي هذه الظلمة حضرت وجوه عديدة. حضر حسن غملوش وطه حسين وإيف مونتاني...


امتحان الحواس


الوقت القصير الذي يمضيه المرء في مطعم «Dans Le Noir» يدفعه إلى إعادة النظر في بعض البديهيات، أن تخطئ في التعرف إلى مذاقات تعتقد أنك تعرفها جيداً أمر محيّر، أن تدرك أن الاتكال على حاسة النظر جعلك تستهين أو تتناسى ضرورة تطوير قدرتك على استخدام الحواس الأخرى. أخيراً، نتمنى ألا يأخذ المسؤولون في لبنان عبرة خاطئة من هذا المطعم فيجعلونا نغرق في ظلام انقطاع التيار الكهربائي.