سارة أسعدأبو عرب، رجل لكلّ المواسم. اسم مستعار يرشّ الصعتر والسّماق البرّي على كعكة، يزيّنها لنا شاب أسمر مفتول العضلات، يقطّعها بسرعة، ويناولنا إيّاها بثقة وخبرة، ابتسامة صغيرة، وقد تصبح الحياة جميلة مجدّداً. نقضم الكعكة بلهفة، ننثر سمسمها على ثيابنا وعلى مقاعد سيّارات فارهة، لا يهمّ، فقد تكون هذه اللقمة آخر ما يُجمِع عليه اللبنانيون (هذا إضافةً إلى بدعة قرب البحر من الجبل والثّوابت الوطنيّة من نوعيّة قناطر بعلبك وحجل صنّين).
نتمسّك بها كالعطشى في الصّحراء، تداعبها أناملنا، نحملها بشغف نحو أبعد نقطة في الرّئتين، متنشّقين سخونة القرمشة اللّذيذة كالخطيئة، متلذّذين «بما بقي لنا» من فتوحات العرب.
بين البلعة والبلعة، تتراقص اللقمة بخفّة تلهب الحواس، تداعب بسخونتها الجسم والعقل معاً، تخرج منها «الهبَلَة» كرياح خمسينية لذيذة تغيّر لون الهواء المحيط، ونودّ أن نحتفظ بالكعكة أطول وقت مسموح به، كالحبيبة الممنوعة عند هبوط الليل.
ينتشر «أبو عرب» في معظم المناطق اللبنانية، على جانبي الأوتوسترادات السريعة، مواقع «أفرانه» تقترح هدنة مسروقة من العمر الآتي من مكان محدّد والقاصد مكاناً آخر: اهدأ! يصرخ الصّوت، تمهّل قليلاً و... «قرّب عالطّيب».
لا يقدّم «أبو عرب» سوى الكعك، مع لبنة، أو صعتر، أو مختلف أنواع الأجبان العربيّة الممزوجة بحبّ وسمسم بلديّ، كما لو أنّ «جوهرجيّاً» تدخّل لصياغتها ورشّ السّماق عليها كنثرات الذّهب الحلبيّ المغناج.
أمّا عن زبائن «أبو عرب» فهم كلّ النّاس. الجميع دون مبالغة، يتوقّف للقاء الكعكة الموعودة بلهفة. إنّه حلم «الماركسية الرومانسية»، يعلّق بعض الشبان في وصف «أبو عرب»، لكنهم هنا يتمهّلون في الشرح، لا بد من استطرادات وإيضاحات» حلم ماركسي نعم، ولكن في هذا الحلم يحل الكعك بدل القهوة، والجبنة والخبز، هذه أحلام الفقراء... مجموعة مخبوزة ملقاة، منثورة على الرّصيف. فقراء وأغنياء، سيارات غريبة ومتطوّرة، وأخرى آتية من مستقبل بعيد، تتجاور مع «موتوسيكلات» الشّباب الصّايع الضّايع.
وأكثر من ذلك، في بلد الفلافل والدّبكة والنعناع الأخضر، وبعيداً عن كليشيهات التّعايش المشترك الذي يشبه بيتر بان بيروت، يجمع «أبو عرب» في كنف حميميّته كلّ الناس، أمام أحد أفرانه تشعر بأنك تتابع منصة عرض، تشهد على تنوع من أكثر الألبسة شرعيّة إلى أغمق اللّحى حنّة إلى أطول الصّلبان شطباً.
يتساوى الجميع أمام هيبة الكعكة. ولو كان للكعكة عيون تنظر مشتهيها، لتدلّلت ورأت أفواهاً مشتاقة إلى ملاقاتها. لو كان للكعكة أمّ، لألبستها ثياب عروس بيضاء.
يبقى الكلام على الرّجل خلف الكعكة، ويبقى السّؤال الضّجر وحده دون صدى يبلّل القلوب «الحشّورة»، من هو «أبو عرب»؟ سراب كالغموض المخيف المَحُوك حول كلّ الحكايا القديمة؟ عيون خلف قناع من سمسم؟ قصائد مرسومة بلا صوت يدلّ على شاعرها؟ تتنوّع الرّوايات من فرع لآخر، يتلعثم الموظّفون عند الإصرار، لكن تسقط رغبة المعرفة مع أوّل قضمة، تاركةً الملعب جميلاً عندما تُحاك أسواره من تخيّلات جائع.