وائل عبد الفتاحالعالم في طريقه إلى «صفقة جديدة». الملفّات النائمة تحرّكت على غير إرادة أطرافها. إيران لم تتوقّع هجوم «الغزل البعيد» من أوباما. والعراق (بنخبه المتصارعة على الحكم أو التي هي في مخابئ المقاومة) فاجأته ترتيبات ما بعد رحيل الاحتلال الأميركي. أفغانستان كذلك. وإسرائيل لم تتوقع أن يكون انتخاب حكومة يمينية متطرفة مربكاً بالنسبة إليها قبل كل شيء. والفلسطينيون لم يتدربوا كفاية على التفاهم المشترك والعودة إلى فكرة «الجبهة الواحدة»، لكن ليس على خط النار، بل في ترتيبات سلطة إدارية بلا سيادة. الرعاة العرب من بعيد يرتجلون في أدوارهم. ينحازون بقوّة إلى سلطة أبو مازن في الصراع مع حماس، لكنهم مع البشير يترددون. وبينما تلوح إيران من بعيد، فإنّهم يبنون حصونهم على عداء «المشروع الفارسي».
كلّ الأطراف يستشعرون «الصفقة الجديدة». يتخذون مواقف عنترية صاخبة في العلن. لكنهم لا يصلون بالأمر إلى ذروة الصدام. الانفعال هنا عاطفي. أخلاقي. وخاصة بالغلاف المحيط بالصراع السياسي، لا بالصراع نفسه... خامنئي قال لأوباما: «أهنتنا من اللحظة الأولى... ولا تكفينا الكلمات». مبارك أيضاً سرّب أنه لن يسكت عن إهانة ليبرمان عندما سخر منه «ليذهب إلى الجحيم... إن لم يقرّر زيارة إسرائيل». ليبرمان يريد حقيبة الخارجية. والإهانة المصرية تقف في سبيل تحقيق تلك الإرادة. كذلك البشير يلعب على فكرة أن مذكرة التوقيف ردّ عليه بكل مخزون الذكورة القبلية... وخلدت صيحاته «عليّ الطلاق...» و«تحت حذائي» مع قرارات طرد بعثات الإغاثة والتهديد بطرد السفراء الأجانب.
تصدير الجانب الأخلاقي هو درع وقائية ليست مهمة في حد ذاتها. المهم ما خلفه. إيران تريد به أن تكسب أرضاً قبل الدخول في مواجهة مع أوباما. وعنف المرشد الأعلى هو إعلان عن طرف في التركيبة الإيرانية، بينما الأطراف الأخرى لديها خطوط وأساليب أخرى. أمّا بالنسبة إلى البشير، فدرع الذكورة القبلية هو آخر طرف في آخر خيط. الفلسطينيون لديهم مساحة براغماتية يسيرون باتجاهها ليقبلوا «التعايش» بين الدم الجديد الذي زرعته «حماس» والدم القديم الذي تحولت به «فتح» إلى سلطة استبداد وفساد عربية تقليدية. كلاهما يبحث عن وجه جديد يتعايش به. وهذا سر العصبية. عصبية مؤقتة لا تؤدي إلى انفراط التفاوض، لكنها تؤجل البحث عن بديل مقبول. فتح ربما حلها في مروان البرغوثي. براغماتي بوجه مناضل. وحماس لا بد أن توازن خالد مشعل بشخص أقوى من إسماعيل هنية.
البراغماتية ما زالت مساحة غامضة لكل من فتح وحماس. تقتربان بحذر. لكنهما لا تتراجعان. يتركان مهمة تسويق «التركيبة الفلسطينية الجديدة» للراعي المصري الذي يدافع عن موقعه من منطق القدرة على التفاوض والتصلّب تجاه «يمينيّة» إسرائيلية لا تثمن «اعتدال» مصر.
نتنياهو يمكن أن يكون مبرراً قوياً لاستمرار التفاوض الفلسطيني، والدعم الأميركي لنظام مبارك، حكيم المنطقة. وهذا وراء رفع نبرة التصلب لا الصلابة. النبرة خلفها تهديد مبطن بأن «الصفقة الجديدة» لن تجد أرضاً تنطلق منها عربياً.
لن يمكن أوباما أن يجد قوة عربية تتوازن مع إيران... إلا إذا صعّدت القاهرة من موجة العداء لطهران، واستدعت عناصر من مخازنها القديمة لتكوين «جبهة مذعورة من التوسّع الفارسي».
ربما استدعت عروبة «ميتة» كما أُشيع في صحف مصرية منذ فترة لتواجه بها التمدد الإيراني في بغداد بإعادة بعث «البعث». هكذا سرب محاربو القوميّة العربية القدامى أنباءً عن ظهور عزة إبراهيم في الرياض. محور جديد بين القاهرة والرياض ودمشق يدخل به العرب «الصفقة الجديدة».
كلام مضحك بالنسبة إلى الكثيرين. لكن ربما هذا هو «المدى الأخير» لأنظمة لم توفّر لها الخدمة في الاعتدال والتحالف مع واشنطن الاستقرار والخلود. وعليها الآن نفض التراب عن مرجعيات قديمة واستدعاء لحظات مثالية.
استعادة اللحظات المثالية هي أجندة لا واعية لكل الأطراف الفاعلة أمام غموض «الصفقة الجديدة».
فتح تريد أبو عمار. وحماس تحلم بأحمد ياسين. مصر حائرة بين لحظتين... كامب ديفيد الأولى أو «حرب تحرير الكويت». إيران قد تشاغلها اللحظات الأولى لثورة الخميني... وهكذا عودة إلى لحظات مثالية ووضع يتصوره كل طرف هو الحصن أمام صفقة جديدة أخطر ما فيها هو غياب صورة العدو الذي ستبنى عليه الصفقة. فأميركا بعد العدوان الثلاثي (١٩٥٦) كان عدوها الأحمر في الاتحاد السوفياتي واضحاً، واختارت الحلفاء والأعداء بناءً على الموقف من العدو. وبعد ١١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١ رتبت المنطقة على حشد المناصرين لنظرته إلى العدو الأخضر (الإرهاب الإسلامي). الآن مَن العدو الذي ستبنى عليه الصفقة الجديدة؟ وما هي اللحظة المثالية التي يضعها أوباما في أجندته الخفيّة؟