strong>ورد كاسوحة *بدت ذكرى 14 آذار هذا العام «باهتة» للغاية. ولهذا «البهتان» تعليله المنطقي. فالمحكمة الدولية (بؤرة الطرح الآذاري) التي باشرت عملها أخيراً فقدت جاذبيتها كموضوع للاستثمار السياسي والتحشيد الانتخابي، ودخلت في طور إجرائي ميكانيكي «لا مكان فيه» للاعتبارات السياسية بطابعها اللبنانوي الضيق. لذا فإنّ ميكانيزمات التحشيد «الاستقلالية» قد بدّلت أولوياتها، وانتقلت إلى عناوين أخرى لا تزال في نظر الآذاريين طريّة وقادرة على الاستقطاب الجماهيري الواسع. عناوين مثل «بناء الدولة» و«بسط سلطتها على كامل أراضيها» و«السلاح غير الشرعي» وتداعيات 7 أيار...
ويمكن القول في هذا الصدد إن قدرة «ثوار الأرز» على الحشد قد «تقلّصت» إلى حدود معينة، هي حدود الاستثمار في هذه العناوين بعدما استنفدت عناوين أخرى أغراضها.
ومع ذلك، لا يزال «الثوار» قادرين على استقطاب جمهورهم العريض، بدليل الطيف الهائل من البشر الذين اجتمعوا قبل شهر من الآن ليجدّدوا «البيعة» لسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع. لكن القدرة على الحشد هنا اصطدمت بعامل موضوعي قلّل كثيراً من وقع المشهدية الشباطية ـــــ الآذارية. عامل يرتكز على عنصري الهشاشة والعجز. فقد بدا النسيج الجماهيري في ذلك اليوم هشّاً إلى حد بعيد، و«عاجزاً» عن إدراك التغيرات التي عصفت بالعالم وأودت بالفكر النيوليبرالي المحافظ الذي أطلق «ثورة الأرز» وأخواتها. و«عجز الجماهير» ليس كعجز «القادة»؛ فهؤلاء مرتبطون شاؤوا أم «أبوا» بعجلات إقليمية ودولية طاحنة لا ترحم، فيما الجماهير «متحرّرة» إلى حد ما من هذه العجلات وقادرة على فك الارتباط بها وبوكلائها المحليين، حالما تجتمع لديها الإرادة والرغبة والقدرة على الربط بين النضالين المطلبي والسياسي. وهذا أمر تفتقر إليه تماماً القاعدة الآذارية بشقيها الاثنين (8 و 14)، ويكاد وجوده ـــــ أي الربط أعلاه ـــــ ينحصر في قواعد الحزب الشيوعي اللبناني وحركة الشعب. ومن يفتقر إلى الوعي المطلبي (حتى لا نقول الطبقي ونثير حفيظة الآذاريين كالعادة!) فلا بد له من أن يفقد الصلة بالعالم الذي يعيش فيه وبقدرة هذا العالم على التحوّل والصيرورة المستمرة.
ولهذا العجز الآذاري المركّب (قيادة وقاعدة) عن الإقرار بالواقع الموضوعي المستجد في العالم، جذر منطقي يتمثل في «الخطيئة الأصلية» التي قامت على أساسها فكرة 14 آذار. فهذه الأخيرة لم تأت في سياق الردّ «العفوي» و«التلقائي» على تحرك 8 آذار البائس والممتن للوصاية السورية كما يشيع «الاستقلاليون» في أدبياتهم، بل أتت في سياق مشروع إمبراطوري أميركي متكامل في آسيا الوسطى والشرق الأوسط. ومع أفول هذا المشروع، كان لا بد لإفرازاته في المنطقة من أن تلقى المصير ذاته، لكن ما حصل أن البنية الطبقية (المنحازة) المتجذرة لهذه الإفرازات حالت
دون ذلك وفوّتت على «وكلاء» المشروع أنفسهم فرصة نادرة للمراجعة والنقد الذاتي ولملمة الحطام. وحده الراحل سمير قصير حاول أن يتفادى هذا المصير، وأن يدفع بزملائه في التجربة إلى انتهاج مسار أكثر جدوى، وأكثر قدرة على استيعاب الدروس والعبر، حتى لو كان هذا المسار من داخل البنية الكولونيالية للتجربة لا من خارجها. وقد جاء اغتيال سمير لاحقاً ليكرّس نهائياً «حالة الإنكار» (والتعبير طبعاً لجوزف سماحة) في النهج الآذاري. والإنكار هنا معطوفاً على إفلاس أيديولوجي معلن هو وصفة مثالية للفشل، كما علّمتنا تجارب «الثورات» التحررية منها والكولونيالية.
ومن أبرز معالم هذا الفشل لدى «ثوار الأرز»، الإفراط في استلهام النموذجين الجورجي والأوكراني وإحلالهما قسراً في لبنان ما بعد الحقبة السورية، بحيث بات هذا الإحلال سمة وحيدة وملازمة لاشتغال «النظرية الآذارية»، من دون التدقيق ولو قليلاً في السياقات الجيوسياسية المغايرة التي أنتجت هذين النموذجين، وأفضت بهما في النهاية إلى التصالح «القسري» مع الحالة الروسية المهيمنة في القوقاز. فروسيا ليست سوريا، والسطوة التي يمتلكها النظام الروسي على الجمهوريات السوفياتية السابقة لا تتوافر بالقدر نفسه للنظام السوري، رغم التأثير الذي يمتلكه هذا الأخير في فلسطين والعراق ولبنان (وموقع لبنان في خارطة هذا التأثير
متقدم للغاية). والصراع الذي أدارته الولايات المتحدة في حقبتها «البوشية» مع روسيا هو صراع على مناطق النفوذ النفطية والعسكرية بين دولتين عظميين، لا بين دولة عظمى وأخرى إقليمية صغرى مهما امتلكت من أوراق القوّة، كما هي حال «الصراع» الحاصل بين أميركا وسوريا في الوقت الحالي (إرسال جيفري فيلتمان عرّاب «ثورة الأرز» إلى دمشق لا يعني إنهاء «الصراع» بل إدارته على قواعد جديدة).
ويترتب على هذه الوقائع الجيوسياسسية المغفلة فهم جديد ومختلف لطبيعة الدور الذي لعبته «ثورة الأرز» في سنوات الحصار الأميركي لسوريا. ذلك أن الموقع الذي شغلته تلك «الثورة» على خارطة «الصراع» الأميركي ـــــ السوري لم يكن متقدماً بالقدر الذي كنا نعتقده، بل كان «هامشياً» إلى حد كبير، ومحصوراً في قدرة أقطابها على الإيفاء بالوعود التي قطعوها لإدارة بوش الآفلة. بكلمة أخرى لم يكن هؤلاء يوماً حاجة استراتيجية لأميركا كما هي الحال مع وكلائها الحاليين والسابقين في جورجيا وأوكرانيا والعراق. تُضاف إلى هذه الحقائق الجيوسياسية التي يعجز عن فهمها الآذاريون جملة من الاعتبارات الأخلاقية التي رفدت إفلاس الأداء السياسي بذخيرة اعتبارية تتصل بحالة الاستعداء التي أقامها «ثوار الأرز» مع قطاع لا بأس به من الشعب السوري. قطاع لا هو بالمعارض للنظام ولا هو بالموالي له. لنقل إنه شريحة كبرى من السوريين الذين أخرجتهم حالة الاستبداد البعثي من السياسة، ولم «يعودوا» إليها إلا من باب التضامن مع الحالة السورية العمالية المضطهدة في لبنان (استمرار هذا «الاضطهاد المنهجي» للعمال السوريين يبعث بإشارات مقلقة وبالغة السوء عن حال العلاقات المستقبلية بين البلدين). فقد دفع مزيج من الجهل والخبث الآذاريين بالسوريين عموماً إلى استبطان الرواية الرسمية تجاه عمالنا الكادحين في هذا البلد. رواية لم تستفق على هؤلاء العمال وعلى معاناتهم المزمنة إلا بعد خروجهم المهين ومقتل الكثيرين منهم عقب اغتيال رفيق الحريري، ومن باب ملاقاة الكيدية السياسية الآذارية بأخرى بعثية، وكلتاهما على أي حال تنتميان إلى المدرسة السياسية الرديئة ذاتها، رغم الفروق الطفيفة بينهما.
والحال أن النظام في دمشق يدين بالكثير للعنصرية الآذارية المفرطة التي بدّدت أي احتمال لتعاطف سوري حقيقي مع ضحايا 14 شباط، و«أعادت» السوريين إلى «السياسة» من باب «التعاطف» مع النظام. وقد ارتدى هذا «التعاطف» طابعاً متوتراً ردّ على العصبية الآذارية المفرطة بمثلها، وأنتج حالة سورية عصبوية غير مسبوقة في تاريخنا المعاصر، وغير معتادة بالنسبة لبيئة استيعابية ونهضوية حاضنة للعرب الآخرين (الفلسطينيين والعراقيين...) ومتفهمة لآلامهم وجراحهم.
وهذه حماقة أخرى من الحماقات التي تضاف إلى سجل «ثوار الأرز»، وبين هؤلاء كثر ممن يعرفون أن استعداء الحالة السورية بمجملها، يعني في ما يعنيه القطع مع عمق استراتيجي وحيوي مهم للغاية. عمق من شأنه أن يوفر لهم امتداداً عربياً يخرجهم من لبنانويتهم العقيمة، ويفتح لهم جسراً من التواصل مع شعب بأكمله. لقد بات إرث المارونية السياسية (المعاد تأهيلها بعد استيعابها لتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي لا استيعاب هذين «الحزبين» لها كما يشيع البعض)، عبئاً على هؤلاء وعلى علاقاتهم بمحيطهم، وإعادة إنتاج هذا الإرث وموضعته في سياق جديد أمران من شأنهما مفاقمة حال القطيعة التي بنوها مع هذا المحيط، ولن تنفعهم في قطيعتهم (عزلتهم) المتواصلة هذه، لا أكثرية نيابية «مرتقبة» ولا علاقاتهم «باعتدال عربي» يلفظ أنفاسه ويسارع إلى «الانفتاح» تارة على سوريا وتارة أخرى على إيران.
وقد أسهم العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في تكريس عزلتهم، وفي إظهار حجم افتراقهم عن الحالة الشعبية العامة المناهضة للأسرلة وملحقاتها «العربية المعتدلة». ولم يخف كثير من الآذاريين على أي حال تبرّمهم (وإن يكن تبرّماً غير معلن) بالحالة اللبنانية المتضامنة مع أهل غزة، سواء اتخذت هذه الحالة شكل تظاهرات تنديد بتخاذل حليفهم المصري، أو شكل مبادرات جريئة وغير مسبوقة لكسر الحصار كما حصل مع سفينة الأخوّة اللبنانية وركابها. ذلك أن إشهار فعل التضامن مع فلسطين وقضيتها وشعبها المذبوح سيؤجل ولو إلى حين، مشاريع التعبئة الانتخابية والاستثمار في دماء الشهداء، وهذا أمر لا يجوز السكوت عنه، واستمراره يعني تعطيل بقايا ميكانيزمات المد النيوليبرالي المحافظ، وإبقاء شعاراته الاستهلاكية الفجة (ثقافة الحياة / ثقافة الموت، «كيف ما برمتا هيدي هي الحقيقة»...) بمعزل عن التأثير في قطاعات عريضة من اللبنانيين والعرب.
قطاعات استعاضت أثناء العدوان وبعده عن هذا المحمول الرمزي الكولونيالي بآخر مناهض للكولونيالية والأسرلة، وحامل لخلاصات نضالية متسقة ومتوازنة للغاية، مفادها أن لا تناقض يُذكر بين فعلي المقاومة والحياة، فمن يتنكب عبء مقاومة الاحتلال هو ذاته الذي يعود إلى أرضه ليزرعها ويفلحها ويجني محاصيلها بعد أن يستنفد فعل المقاومة أغراضه. ومن يعجز عن فهم هذه الحقيقة البسيطة يكن كمن يعلن أن فعل التضحية كما الحياة إنما هو «طبقات»، فكما أن «للأعداء» مراتب متعددة (إسرائيل، أميركا، سوريا، إيران...)، كذلك للشهداء، فشهداؤهم غير شهدائنا، وتضحياتهم تختلف عن تضحياتنا. بهذا المعنى نكون قد وصلنا إلى «الحضيض»، وصنّفنا حتى الأموات تبعاً لتراتبية معيارية باتت تهيمن على الخطاب «الليبرالي» السائد في هذا البلد. خطاب فاته أن ميكانيزمات التحشيد المذهبي المتبادلة بين طرفي الصراع لا تعبأ كثيراً بالفروق الطبقية، ولا تقيم كثير وزن للحساسيات والأذواق الحياتية، بقدر
ما تراهن على المحمول الرمزي الهائل الذي تختزنه فكرة الضحية أو الشهيد، ومدى تأثير هذه الفكرة على الذاكرة الجمعية اللبنانية المثخنة بالجراح. ذاكرة تفعل فعلها «السحري» في الشوارع والساحات المتقابلة والمتعارضة، وتبدّد أي احتمال يذكر «للتهدئة» و«الوفاق» و«المصالحة»، رغم إصرار طرفي الصراع على «عكس ذلك»، و«تمسكهما المفرط» بخطاب «التهدئة» ونبذ التصعيد، ريثما تنقضي الانتخابات المقبلة، وينقضي معها الالتباس القائم الآن. وهو التباس يفضح بلا شك، تناقضات الخطاب المهيمن على كلا الفريقين (8 و14 آذار)، ويحيلنا إلى الخطيئتين الأصليتين (راجع مقالة سابقة لنا بعنوان «8 آذار 2005: بداية بائسة ومآل عقيم») اللتين قام عليهما هذان التجمعان السياسيان المفلسان.
* كاتب سوري