رائد شرف *يمثّل فيلم «الرقص مع بشير» نموذجاً ممتازاً لمنظومة صناعة ثقافية، مؤسساتية، محصول صناعتها الاغتصاب المعنوي للحقوق العربية والتبرير المعنوي للاغتصاب العسكري والاجتماعي. هو، كما سيمر في هذا المقال، منتج بروباغندا مضاعف التأثير، إن لم يكن مضاعفاً ثلاث مرات، نظراً للتجاوب الرسمي السريع من الجانب اللبناني. ولبنان دولة طليعية في تبني خطاب المستعمِر ضد المستعمَر، لا بل في استيراد الاستعمار أيضاً.
فالفيلم كغيره من المنتجات الصهيونية تصح قراءته على صعيد دعاية إسرائيلية تريد أن تطال المجتمعين الإسرائيلي والغربي قبل غيرهما، موحدةً بمنطقها بين المجتمعين. يقول الفيلم للغربيين إن الإسرائيليين مثلهم، ويقول للإسرائيليين إن الغربيين مثلهم، أي إنهم مثل الغربيين بالمعنى الإيديولوجي «الأبيض» والمهيمن، مجتمع مسالم «متورط» في الحرب، وليست الحرب عقيدته، وبالتالي إن الحرب والاغتصاب «قدره». فهو يحتوي على الجرعة الكلاسيكية من البهلوانيات السردية المطهِرة، من مشهد حياة الليل في تل أبيب وموضة «البنك» (Punk) السائدة آنذاك، وهي موجة اجتماعية لا تفهم إلا بمنطق فينومينولوجي خاص بالغرب ويعزله عن علاقاته بكل ما هو خارجه. كما يزخر الفيلم بالوصفات المكررة من البكاء على الحيوانات أحصنة وكلاباً، ومن التلميحات الرمزية إلى مستوى سيكولوجي مفترض العمق عبر رمزية الأحلام والعودة الوجدانية إلى الطفولة واستعارة «الحضن الملجأ» لامرأة عارية وعملاقة، سمراء الملامح، غير أن القصد من صبغتها «الإثنية» يعود إلى منطلق طائفي يهم الصهاينة إبرازه (لاوعيهم الغربي يبقى «يهودياً» وشبح المحرقة جزء منه، فهم لا يريدون أن يظهروا فائقي «البياض»).
طبعاً، لا يعني ذلك أن منطق الفيلم مدبّر بهذا التأني البروباغندي. فأغلب الظن أن القيّمين عليه «حقيقيون» في مشاعرهم وتعبيرهم الفني. ويبقى خير دليل على فاعلية الفيلم، وعلى اندماجه ضمن نظرة بورجوازية للواقع («حداثية»، كي لا يزعل أحد) متطابقة مع الحدود الحسية للأفراد البورجوازيين، تعطُّش وزير الإعلام «المثقّف» وبعض «متذوّقي الفن» في لبنان للفيلم ولعرضه في الصالات السينمائية في بيروت. هؤلاء مستعدون للتكبر على أسس مؤسسات الشعب التاريخية (على القليل الصائب من الأسس في أجسام مؤسساتية فاسدة) من أجل فيلم إسرائيلي، لكأننا «نفوّت على أنفسنا» تحفة كلاسيكية لموزار.
وفيلم «الرقص مع بشير» عمل كلاسيكي في تبرئة الذات. فهو كونه فيلم رسوم متحركة قبل كل شيء، ينادي المشاهد إلى قراءته بنظرة فنية كما لو كان إنجازاً من إنجازات «الفن» بمفهومه البورجوازي المهيمن: أي كعمل من «جمهورية السلم» ومن عالم البورجوازية الهش والطري. وقد وصل الاحتفال به إلى ترشيحه للأوسكارات. ولكن هنا ربما يكمن أول تناقض في المنظومة الصناعية الثقافية الغربية ـــــ الإسرائيلية المشتركة، حيث إن الفيلم، رغم بعض براعته التقنية، يفتقد إلى كثير من المقومات الفنية، إذا قيس بأي عمل فني من الرسوم المتحركة الأخرى (أفلام ميازاكي مثلاً).
بدايةً، في السيناريو. الفيلم ركيك جداً، غير متجانس. يبدأ على نمط السيرة الوجودية لينتهي على نمط المقابلات التوثيقية.
وهو، من حيث صياغة شخصيات الأبطال الفاعلين، أيضاً فاشل. وهذا من «الطبيعي» في ما يخصّ الأفلام الاستعمارية. فهو، طبعاً، يعطي كامل المدى لآراء، لا بل أصوات، الأفراد الإسرائيليين، إلى حد تكرار إحدى «التفنغات» المشاعرية (الحزن على الحيوانات) مرتين. حتى إن الفيلم يعطي المجال واسعاً للحيوانات كي تنطق (وقد وصلتنا رسالتها)، ولا يعطيه إطلاقاً للعرب. لا نسمع في الفيلم من عربية أو عربي أي شيء، سوى القليل في آخره حيث تبدو النساء في «هذيانهنّ» وهنّ خارجات من مجزرة صبرا وشاتيلا وكأنهنّ ينادين الإسرائيليين مستنجدات! وهذا تحريف صارخ للحقائق. لكن لنعط الفيلم حقه، فهو في نهاية المطاف لم يقصد أن يخاطب جمهوراً متضلّعاً من الحقائق.
إذاً، الفيلم فنياً ركيك، لا يفسح لتعدد الآراء والاختبارات بشأن وقائع ١٩٨٢، وهو بذلك لن يضاهي ولا بشكل ما أنتجه المجتمع البورجوازي الغربي من براعة في السيطرة على تشابك الآراء واختبارات الواقع أو في تقديم «الواقع» في تفاصيله وفي تعقيداته، كما صحّ وجوده في فيلم الأخوين قوين الأخير مثلاً.
بل كان يمكن الفيلم أن يتجنب الفشل لو لم يتشبث القائمون عليه بإعطاء «أبطال الفيلم الغائبين»، أي العرب، قسطهم من السيكولوجيا البازارية، عندما يصف علاقة جمهور الكتائب ببشير الجميل بـ«الشهوانية». لماذا هذا التمسك المبتذل بالحديث على من ليس موجوداً فعلياً؟ (الجواب لاحقاً).
في حديثه عن العرب، لا يعالجهم الفيلم كأفراد. هم دائماً مجموعة، أو جماعة. على شرفات المنازل، في الطرق. كما مع خروج نسوتهم من المجزرة في صبرا. حيث يحصل كل فرد إسرائيلي على شبه جلسة «فرويدية»، يحصل الأفراد العرب على تعميم وتبسيط من نوع سيكولوجيا الجماعات يشيب شعر غبريال تارد (وهو غير غبريال المر مع أن جامعهما التبسيط).
وفي تقليد استعماري قديم، يقدم الفيلم في أحد مشاهده منزلاً عربياً في ضواحي بيروت (على حد قولهم) يحتوي من مقومات «الفسق» والبذخ على ما يمكن أن يأخذ المشاهد في التأملات... الشهوانية. هكذا تُصور «حرمات» العرب، وهي بذلك تستحق أن تُنتهك. البيت «كله من ذهب»، يقول الفيلم، «رخام إلخ». الفكرة واضحة. يخبرك الفيلم كيف أن حرمات العرب، منازلهم، أفسدت ضباط الجيش الإسرائيلي، ويصف ضابطاً وجده أحد الأبطال وهو يشاهد فيلماً إباحياً داخل المنزل الذي صادره الجيش. لا شيء في المنزل يجرك إلى تصور حياة عائلية أو منزلية تقليدية (أو بالشكل الأكثر شيوعاً). لا شيء مثلاً يعيدك إلى ذلك الفتى الاستشهادي الذي اضطر العسكريون الإسرائيليون إلى قتله. ما هو ماضي هذا الفتى؟ ماذا في داخل منزله؟ ما هو عمق أفعاله؟ لا نريد أن نتكهن عما يمكن أن ينتج الفيلم من نظرة إلى هذا الفتى عند المُشاهد. لكن يمكن الجزم بأن الفيلم يدخل ضمن منطق منتجات الإيديولوجيا المهيمنة الأكثر انتشاراً أو على الأقل الأكثر ارتياحاً. لا يبدو هناك همّ عند المخرج آري فولمن في تصحيح أي شيء اجتماعياً، فهو مرتاح إلى الموجود وإلى النظرات السائدة للصراع العربي ــــ الإسرائيلي. لكن المشهد هذا يأخذنا إلى ما هو أكثر دلالة من ذلك.
لا يمكن إغفال كون حرب الخليج الأولى أخذت العالم إلى ديناميكية إعلامية جديدة، قدمت الحرب الأميركية على العراق عام ٢٠٠٣ قدوتها الرمزية و... المهنية. يذكّرنا هذا المشهد عن البيت المليء بالأشياء الجنسية والشهوانية، بما سمح الجيش الأميركي بتسريبه من صور ولقطات تلفزيونية، لعسكره في قصور النظام العراقي السابق. حين ركز الإعلام على البذخ في القصر وفي مقتنيات الترف بدل أن يسلط الضوء على ما تحتويه من وثائق الإدارة (إدارة النفط مثلاً) والدبلوماسية (وما قدم من هدايا لأحزاب الغرب الكبرى ولبعض قادته). وفيلم «الرقص مع بشير» وفيّ لهذه الممارسة، المشرعنة للهيمنة منذ ما قبل حرب العراق. لكن الفرق يكمن في كون الفيلم عملاً فنياً، معاصراً لحرب العراق، وليس مجرد صورة إخبارية كما هي وظيفة التلفزيون «المفترضة»
والمعترف بها. وتقييم العمل الفني وكذلك قراءته يأخذان في الحسبان الاختيارات التعبيرية التي يحويها الفيلم، أي نوع الصورة أو الرسم. هل هو واقعي؟ هل هو مرسوم بتأنٍّ؟ وفي حال تَشابُه الصورة مع أشكال تصويرية متداولة في «الحياة اليومية» يشتمل التقييم على معالجة منطلق اختيار هذه الصورة والحكم على هذا الاختيار من حيث نجاحهما أو لا في استعارتهما أو تحريفهما للصورة «اليومية»، وفي إضافتها شيئاً أو لا إلى العمل الفني. فيلم «الرقص مع بشير» يدّعي انسجامه وهذه الفذلكة، وينادي إلى قراءة اختياراته التصويرية ضمن هذا البعد، كما يقترحه خيار الدقائق الأخيرة منه في عرض صور فيديو أصلية لمجزرة صبرا.
قد يقال إن «الرقص مع بشير» لم ينتبه إلى تشابه تغطية منزل لبناني محتلّ مع تغطية الجيش الأميركي الإعلامية لاحتلاله المنازل العراقية، لولا أن الفيلم لا يحتوي على غيرها من الاستعارات، الأكثر خطورةً وطبعاً، غير المبررة فنياً ــــ هذا إن صح أن العمق سبيل الفن ــــ بما أنها لا تأتي بأي بعضٍ إضافي. لكنها استعارات نموذجية لعقلٍ بورجوازي صغير من الطراز الغارق في إيديولوجيا دولته الاستعمارية، أكثر ما يشغله في المعالجة «الفنية» للأمور هي الفرحة الآنية والمرتاحة في وضعها لتطبيقها فذلكات تقنية على نسق «لحظة مالبورو». لكأن القيّمين على الفيلم كانوا أكيدين من نجاحه ومن الضجة التي سينالها، أو على الأقل، من أن الفيلم سينال تغطية واحتضاناً بجدية احتضان... بيان لقيادة الجيش.
أكثر الاستعارات من ثقافة حرب العراق بلاغة هي هذا اللون الأصفر المائل إلى الأخضر الذي تصوّر به الحرب. طبعاً، الفيلم لا يستعير النسق نفسه في التصوير، ما يدعم فكرة التلاحم الإيديولوجي العفوي بين مجتمع فناني الفيلم ومجتمع الجيش الأميركي. الفيلم، في هذا التصوير للحرب، كما في مقطع تغطية احتلال المنزل، يبرهن على «صدفة» تلازمه والدعاية الحربية الأميركية، مرجحاً فرضية تشابه حواس الإدراك. صورة الفيلم شبيهة بإيديولوجيا الحرب الجراحية، المدّعية «النظافة»، كما يسعى الفيلم إلى التطهر الذاتي. صوره لا تظهر من المعركة غير «الجندي ـــــ المواطن»، متوسطاً كل محيط، حيث لا نميز بين الدم والعرق والغبار، وكل شيء متعلق باللباس أو المعدات العسكرية يزيد لونها غمقاً، ما يعزز الصورة المتخيلة للمكان (لبنان في ضاحيته وعاصمته) على أنه كوكبٌ آخر لا يعطيه إنسانيته غير الوجود العسكري الإسرائيلي. وإذا كان مقدّراً للعسكري الإسرائيلي أن يتسخ، فذلك في دخوله هذه الأرض وهذا المكان.
لعل المشهد الأخير من الفيلم، عن حصول مجزرة صبرا وشاتيلا، يمثّل قمة هذا المنطق. فالعسكريون الإسرائيليون في هذا المشهد يصبحون مشاهدين ويرفعون أيديهم عن قمة القذارة التي سيتسلّمها العرب الكتائبيون. مشهد تتويج منطق الفيلم التعبيري، يفضح الإنكار الإيديولوجي الإسرائيلي لمسؤوليات الجيش الإسرائيلي في المجزرة، كما يفضح (عندما يصبح الفيلم الوجداني فيلماً توثيقياً) غاية الفيلم من عرض الواقعة وظروف الإنتاج. فالفيلم كله يدور وكأن «الدخول» الإسرائيلي إلى لبنان كان في سبيل النزهة، حتى إننا لا نفهم لماذا أعطي بشير الجميل هذه الأهمية في العنوان. مجموعة حماقات سردية لا يأتي بتفسيرها سوى المقطع الأخير، فصل المجزرة، وهو الفصل الوحيد من حرب لبنان ١٩٨٢ الذي خصصت له المؤسسة الإسرائيلية رواية مؤسساتية رسمية، لكون الفاجعة في حينها لاقت صدى دعائياً غير مرغوب. يأتي الفيلم، كما لجنة كاهن سابقاً وبالظروف الرقابية نفسها، على معالجة مسألة صبرا وشاتيلا بكثير من الحذر. لم يحسب الاحتلال الإسرائيلي احتلالاً للأراضي اللبنانية. احتلال استمر أكثر من سنة لأغلب المناطق، احتك فيه عسكريو الاحتلال بالسكان يومياً، وقتلوا البشر بالآلاف، حتى إنه من المستغرب ألا يتذكر آري فولمن ولو جلسة «كاراوكي» واحدة مع بعض المعارف اللبنانيين، هو ذو الأذن الموسيقية الرفيعة الذوق. لكن حاسة إدراكه تخونه، كما فسر لنا في أول الفيلم، وهو لربما صريح ومنسجم مع نفسه ولا يكذب، ولم يخضع فيلمه لأي نوع من الرقابة المسبقة. لكن كل هذا غير مهم، فالفيلم هو ما هو، شبه رواية رسمية لاحتلال عسكري.
قراءة الفيلم الفنية، بمنطقه الداخلي، تقدم نموذجاً مختصراً (يبقى افتراضياً مثل غيره حتى ثبوت العكس) لمجتمع صناعة هذا الفيلم واحتضانه وتكريمه. صناعة الفيلم نتيجة تلاقي منظومتين، من جهة، عقلٌ بورجوازي إسرائيلي صغير، ابن اغتصاب فلسطين وحقوق العرب والعيش الكريم على أرزاقهم و.. من جهة أخرى، المؤسسة الرسمية الإسرائيلية المسخّرة لاغتصاب حقوق العرب، والراعية لمخرج الفيلم، باستثناء لحظة «اضطرارية» في منطقها وتقسيمها للعمل الاجتماعي الإسرائيلي، فرضت عليه فيها واجب احتلال لبنان.
اللافت هو تماشي منطق «مسالم» ذي صفات بورجوازية «معولمة» مع منطق بيان عسكري لجيش ما زال في أرض المعركة وفي حالة طوارئ. والمؤسف هو أن تلاقي الاثنين، تحت غطاء أحدهما، يلاقي استحساناً وتصفيقاً في بعض الأوساط الغربية، حيث لإسرائيل تعاطف ومكان استثنائي «في القلب» يسامحها على رداءتها الفنية كما الإنسانية، ويلاقي دموعاً وإعجاباً في لبنان، عند بعض نظراء المخرج في الرداءة، ما يدعم فكرة أن مشكلتنا مع الكيان الصهيوني مشكلة أرض وجرائم ضد الإنسانية نعم، ومشكلة طبقية أيضاً.
* باحث لبناني