محمد خليل رضا *ضمن برنامج «الفساد» على تلفزيون «الجديد»، وردت حالة طبية جراحية ينبغي التوقف عندها بأمانة ومصداقية وحياد وعلم وخبرة من دون انحياز:
سمعنا في الحلقة أن مريضة أدخلت إلى أحد مستشفيات بيروت لإجراء عملية جراحية في المعدة بتاريخ 8 آب 2008، وأن أحد الجراحين أجرى لها العملية بمعاونة زملائه، واستمرت من الساعة التاسعة لغاية الحادية عشرة والنصف ليلاً، وحصلت لها انتكاسات أدت إلى وفاتها. وقيل أيضاً في الحلقة إن الجراح قد نسي جسماً حاداً (إبرة) داخل البطن وذلك بناءً على تقرير عُرض خلال الحلقة مباشرة على الهواء، والقصة طويلة، وإن أحد النواب تبرّع بمبلغ ثلاثين ألف دولار لإجراء العملية، وهذا عمل إنساني بامتياز يُشكر عليه بصدق.
وقيل أيضاً إن الجراح هو مسؤول عن وفاة المريضة... وقيل الكثير عن الحالة في برنامج «الفساد» مساء الجمعة 27 شباط 2009.
بصفتي طبيباً شرعياً وجراحاً وأستاذاً جامعياً ومحايداً لا بد لي من توضيح الآتي:
إذا كان الأمر كذلك، فلا بد من تحديد ما يُطلق عليه في لغة الطب الشرعي وأخواته «المسؤولية الطبية»، وهي على أنواع: استشفائية، إدارية، جنائية، تأديبية، طبية، جراحية، تخديرية وسواها، ومضاعفاتها، وهل العملية كانت مبرمجة أم أجريت بصورة طارئة، فلكل منها ظروفها وألف بائها وتخديرها (بالخاء) أي تبنيجها... وكذلك التعرف على السوابق المرضية والجراحية، والنفسية والدوائية، والصدمية «Traumatique» وسواها، وهل المريضة لديها حساسية على دواء معيّن، وقس على ذلك، والتعرف على سير العملية الجراحية من كل جوانبها، وكذلك من الناحية التخديرية وهل حصلت لها انتكاسة خلال العملية الجراحية في هذا الإطار، وأدخلت بعد العملية لاحقاً إلى قسم العناية والمراقبة؟
لا يمكننا أن نتكلم عن خطأ طبي أو اتهام لهذا أو ذاك، وحتى لو وجدت لجنة طبية وعلمية، فإننا نحترم ما تقول لكنها تبدو ناقصة ما لم تُشرّح الجثة «Autopsie» بطريقة علمية، وبدقة، وخبرة وبمهارة ومعرفة ومهنية، وبالتالي التعرف على محتويات الصدر والبطن والأحشاء، وهل كل الأعضاء سليمة وطبيعية، وهل هناك دم أو سائل بيولوجي أو قيح في البطن والصدر والحوض، ونتعرف على الكبد هل هو سليم وغير متضخّم أم ممزق، وينسحب الأمر على الطحال، والكليتين اليمنى واليسرى والغدة فوق الكلية «Sur renal» والرئتين والبنكرياس، ونفتح المعدة ونتعرف على محتوياتها، ومخاطها، ونفتح كامل الأمعاء الدقيقة والغليظة (القولون) ونتعرف أيضاً على محتوياتها ومخاطها، وهل فيها ثقوب أو أورام أو جسم غريب...
وبالنسبة للقلب يُشرّح بدقة كبيرة وبخبرة وبمهارة، ونستعلم عن الشرايين الإكليلية للقلب ونفتحها على طولها، هل فيها تضيّق أو انسداد أو جلطات، ونأخذ قياس سماكة جدار البطين الأيمن والأيسر ووضعية صمامات القلب: الأبهرية والتاجية و«ثلاثي الشرف» «Tricuspidiene» وغيرها، ونفتح الأوعية الدموية للشرايين والأوردة: الأبهر والأوردة الرئوية وسواها، للتحري عن وجود جلطة رئوية أو غير ذلك، وهل هناك دم أو سائل بيولوجي أو قيح أو هواء داخل الرئة اليمنى أو اليسرى أو الاثنتين معاً، وهل جميعها سالمة من الناحية العيانية، من دون أن ننسى فتح تفرعات الشريان الأبهر: البطين، والصدري، والحرقفي «ilaque» والفخذي والمأبضي «Poplitee» وغيرها... وعند وجود دم أو سائل بيولوجي أو قيح نسجل حجمه بدقة ونأخذ عينات منها ومن كل أعضاء الجثة بعد استئصالها، وتُصوَّر الجثة شعاعياً للتحري عن وجود أجسام معدنية وكسور أو سواها وتموضعها من الناحية التشريحية، ويوزن كل عضو، ويُسجل ذلك على ورقة قانونية رسمية. كما تُفتح الجمجمة ويُتعرف على وضعية الدماغ ومحتواه. وللتذكير، ليس في لبنان معهد للطب الشرعي ويبقى مجال الاجتهاد والتكهنات والتساؤلات وارداً وبقوة.
أريد أن أنقل حل هذه الحالة من ناحية الطب الشرعي، وكما يحدث في فرنسا مثلاً، حيث يصار إلى تحقيق طبي شرعي «Expertise Medico - Legale» مع ملف كبير وضخم يتضمن: تقريراً مفصلاً للطبيب الشرعي الذي عاين الجثة وشرّحها، وتقريراً من القضاء المختص، وبروتوكول العملية الجراحية، وتقرير طبيب التخدير وفريقه الذي «بنّج» المريضة خلال العملية الجراحية، مع ما يشمل من مقدار الأدوية، وتخطيط القلب المتكرر قبل العملية وبعدها، ووضعية التنفس، وضغط الدم، والحرارة، والنبض وسواها التي تقاس وتُسجّل باستمرار، وعلامات حيوية أخرى، إضافة إلى نتائج الفحوص البيولوجية للدم مثلاً، أو لوجود حساسية لهذا الدواء أو ذاك. فحدوث حساسية معينة لمستحضر دوائي يصنّف على أنه نقص في استجوابها طبياً كما يجب، إذا كانت هناك موانع أو محاذير ومضاعفات لإعطاء هذا الدواء أو ذاك، وقس على ذلك. إضافة إلى السوابق المرضية والجراحية والدوائية والصدمية وسواها للمريضة (سبق أن ذكرتها لكن أكررها نظراً لأهميتها)، وهل هناك جسم غريب: فيروس، جرثومة، فطريات أو سواها، كانت موجودة في أجهزة التنفس والتخدير أو في هواء غرفة العمليات أثناء إجراء العملية الجراحية، أو وجود غاز أو جزئيات غريبة سامّة في الجو، وهل أخذت عينات منها...
وللتذكير، فقد حصلت حالات في العالم، ومنها فرنسا مثلاً، بوجود مرض الرشاشيات «Aspergilose» خلال إجراء العملية الجراحية، والقصة طويلة، وحصلت مضاعفات خطيرة للضحية أدت إلى وفاتها... كل ذلك موثّق وموجود في ملفات الطب الشرعي الدولي.
إلى ذلك، فهل حصل لهذا المريض أو ذاك إنعاش يدوي للقلب «Massage Cardiagrue» قوي جداً أدى إلى تكسر الأضلاع وأحدث تمزقاً في القلب والرئة والأحشاء الأخرى، فتشريح الجثة يجيب عن عن التساؤلات.
سمعنا في البرنامج عن تمزّق الكبد والطحال. وهنا أسأل: هل تأكّد من ذلك بصورة علمية ورسمية وشعاعية؟ وهل بُرهن جراء إرسال إبرة داخل البطن وسحب محتواها؟ وهذا لا يحتاج إلى تشريح الجثة مثلاً، أو عبر اللجوء إلى صورة شعاعية متطورة أو من خلال الرنين المغناطيسي أو سواها.
قيل في البرنامج عن وجود إبرة داخل بطن الضحية، نحن بحاجة إلى دليل من خلال منظار وصور شعاعية للجثة مثلاً لتحديد تموضعها من الناحية التشريعية. هناك حالات تكون الإبرة على جسم المريض من الخارج ولدى تصوير الجسم شعاعياً تظهر الإبرة داخل الجسد. إذا لم يصر إلى تشريح الجثة قد تكون إبرة أو شيئاً آخر. فمثلاً نحن كجراحين نستفيد من شاش يحتوي على خيط دليل «Radio ــــ Opaque» يظهر في الصورة الشعاعية على شكل خط مستقيم رفيع أو منحرف بحسب وضعية الشاش داخل الجسم (نلجأ إلى تصوير المريضة شعاعياً خلال العملية الجراحية قبل أن «نُسكّر» أو نخيط البطن أو الصدر أو مكان العملية).
قد يكون الشاش متجعّداً أو منكمشاً فينعكس على الخيط الذي يبدو على شكل متعرج أو مقوّس مثلاً، تماماً كالإبرة التي نستعملها في الجراحة على شكل قوس. وللتذكير، لا يقفل الجراح ويخيط البطن أو سواه إلا بعد التأكد تماماً من عدد الشاش و«الفُوَط» الجراحية وغيرها التي نستعملها في الجراحة وتعطينا الممرضة المسؤولة جواباً إيجابياً عن أن العدد صحيح، حينها نقفل البطن أو مكان العملية ونخيطه وندوّن ذلك في بروتوكول العملية الجراحية. لكن كل ذلك لا يفيد ويبقى في إطار التكهنات والاحتمالات والتساؤلات، فالذي يحسم الأمر هو تشريح الجثة. وكي لا يُظلم أحد. تجدر الإشارة إلى أن وجود إبرة داخل جسم الإنسان لا يقتل. تحصل حالات عرضية يبلع فيها أحدهم إبرة أو دبوساً فتُستأصل بالمنظار، وقد يدفعها المريض خلال «الخروج» (مع البراز).
لكن أحياناً يكون موضع الإبرة حساساً من الناحية التشريحية يخشى أن تدخل إلى مكان هام كالشرايين أو الأوردة لأن لها رأسين حادين تثقب هذا المكان أو ذاك ويحدث انسداد للشرايين أو الوريد في قطر صغير جداً أو يحدث نزيف.
في هذا الإطار، ربما يكون التدخل جراحياً أو قد يحدث بلع مواد معدنية عند المرضى النفسانيين أو المساجين. في المقابل يحدث عند وضع «راسور» داخل الشرايين الإكليلية للقلب، أن يهجر «الراسور» مكانه، وكذلك لدى وضع «فيلتر» للوريد الأجوف السفلي ولا يؤدي ذلك إلى وفاة المريض. أو لدى وضع «راسور» في أحد الشرايين في الأطراف السفلى مثلاً، وقس على ذلك. إشارة إلى أنه كانت لي شخصياً مداخلة عبر الهاتف خلال البرنامج مباشرة تكلمت فيها عن هذا الموضوع وباختصار شديد جداً جداً.
وقيل في الحلقة: عندما يتصلون بالطبيب الذي أجرى العملية كان «يسكّر» الخط في وجههم عندما يتعرف على رقم الهاتف. وقيل في الحلقة أيضاً عن شراء شقة وما إلى ذلك... وقيل إن الطبيب نسي مشرطاً ومقصاً وإبرة مزّقت الكبد والطحال «وطلعت على شريان القلب وقطشه»! إلى ما هنالك من أقوال في هذا الاتجاه أو ذاك.
أكرر: إنّ تشريح الجثة بتأنٍ وخبرة ومهارة، ودراسة الملف بكل جوانبه يجيب عن السؤال بضمير ووجدان وحياد ومهنية وحرفية وإنسانية ومن دون تردد، وإذا كان من شك في هذا التقرير أو ذاك، يصار إلى تحقيق مضاد ويسمى في لغة الطب الشرعي «Contre Expertise».
* جرّاح وطبيب شرعي