نهلة الشهاليوم 19 آذار/ مارس، نزل إلى الشارع في فرنسا ما قدّرته النقابات بثلاثة ملايين متظاهر (بينما تقر تقارير البوليس بنصف هذا العدد!)، وهو ما يفوق بنصف مليون عدد المتظاهرين قبل بضعة أسابيع، في نهاية كانون الثاني. هذا الغضب العارم تحرّكه التسريحات الجماعية من العمل بحجة الأزمة الاقتصادية العالمية التي باتت مشجباً يعلَّق عليه كلّ شيء، وكذلك معارضة خطط «إعادة التنظيم» التي تتبنّاها الحكومة، وهي ليست وليدة البارحة ولا بنت الأزمة إيّاها، بل خلاصة خيارات مضى على اعتمادها سنوات طويلة ويجري تنفيذها، ببطء ولكن بثبات، من جانب حكومات اليمين كما الحزب الاشتراكي الذي لا يقلّ نيوليبرالية عن غريمه. أما البطء، فمردّه إلى رسوخ «الدولة الراعية» وقوّتها في بلد كفرنسا، فيغدو صعباً تفكيك وتخريب المؤسسات العامة كالتعليم والطبابة المجانيين، وقوانين العمل الناظمة، وسائر الضمانات والحقوق الاجتماعية. وكان انتخاب السيد نيكولا ساركوزي تتويجاً للثبات على هذا الاتجاه، حيث نطق الرجل بصراحة، ووعد بإنهاء حالة الخجل ممّا يجري تدبيره حثيثاً لكن دون إفصاح. وكان أوّل تدبير أخذ به هو اعتماد «الدرع الضريبي» الذي يخفض الضرائب على أصحاب المداخيل الأعلى، بحجّة تشجيع الاستثمار ومحاربة هرب الرساميل.
ولكنّ الأيام اللاحقة كشفت بقسوة فائقة خرافة السوق الناظمة، وراحت المؤسّسات المالية الكبرى تتهاوى مستنجدة بـ«الدولة»! هذا بدءاً من الولايات المتحدة، النموذج الذي كان ساركوزي وأقرانه يحلمون بالاقتداء به. يعرف الجميع القصّة كلها، بل تفاصيلها، التي لولا أنها تودي بحياة الملايين إلى بؤس رهيب لكانت مضحكة من فرط كاريكاتوريّتها.
وفي الولايات المتحدة نفسها، كما في سائر البلدان الرأسمالية الكبرى، تدخّلت الدولة فعلاً، وأفرجت عن المليارات من خزائنها (من أموال الناس، فهذه ضرائب محصّلة منهم، وليست ريوعاً نفطيّة!)، وضخّتها في مساعدات عاجلة لبنوك وشركات مالية وصناعية، لمنع حدوث انهيار عام. لحد هذا، التدبير قابل ــ ربما ــ للتبرير، يعني يمكن اعتباره وجهة نظر. ولكنّ البنوك والشركات استمرّت في صرف الموظّفين والعمّال، بل ضاعفت أعداد المسرَّحين وسرّعت من وتيرة الإجراء وباتت تفعلها بلا حساب، على أساس: الأزمة!
شهدت فرنسا صرف حوالى 350 ألف عامل في الأشهر الستّة الأخيرة وحدها. وتقول التوقّعات إنّ نسبة النموّ في منطقة اليورو مثلاً ستكون ناقص 3 بالمئة للعام الحالي. ولكنّ أرباب العمل ومديري الشركات والبنوك الكبرى ما زالوا يتنقّلون بطائرات خاصة، ولم يعدّل أيٌّ منهم نمط حياته، وما زالت دخولهم الشخصية تصل إلى أرقام خيالية. نعم، تراجعت قيمة أسهم شركاتهم في البورصة. نعم، انخفضت أرباحها. ولكن، في مواجهة ذلك، كان أوّل من جرت التضحية بهم هم الأفقر، حفاظاً تحديداً على الطائرة الخاصة وسواها من الامتيازات. تلك هي المسألة تحديداً لا أي شيء آخر. وهي تطرح سؤال الأولويّات، ونمط تنظيم الإنتاج وقرار توزيع عائداته.
أمثلة توضيحية: في فرنسا، منحت الخزينة العامة بنك «سوسيتيه جنرال» قرضاً من المال العام وصل إلى 1.7 مليار يورو، «لمجابهة الأزمة». وبعد ذلك بأسابيع قليلة، يوم 19 آذار تحديداً، أي يوم التحرّك الاحتجاجي والمطلبي العارم، أعلنت إدارة هذا البنك أنّها قرّرت منح مديريها الأربعة هديّة، هي عبارة عن أسهم تفضيليّة من شركتهم في البورصة. غضب حتّى ساركوزي!! وقال إنّه من غير المعقول طلب مساعدة المال العام ثم اقتسام منح وهدايا من هذا القبيل، بينما هدّدت وزيرة الاقتصاد بسَنّ قانون لمنع الممارسة، إذا لم تنفع المناشدة! في الولايات المتحدة، صوّت الكونغرس على ضريبة تصل إلى 90 بالمئة على الزيادات المقرّة لكبار المديرين والعاملين، لمناسبة قرار شركة التأمين AIG (التي أنقذتها الخزينة أخيراً) منح علاوات مشابهة!
تبدو القضية إذاً في جانب منها أخلاقيّة! وفي جانب آخر، تبدو مرتبطة بطارئ داهم يتطلّب تدابير عاجلة. وهناك بالفعل بُعدٌ أخلاقي وقيميّ يخصّ هذا الذي يجري. ولكنه يتناول ليس مخاطبة حياء أسماك القرش هؤلاء، بل خيار نمط التنظيم الاجتماعي وقيمة الإنسان ومكانته في العملية الاقتصادية، وكل تلك «الأفكار» التي قيل عنها إنها لم تعد على الموضة. وهناك بالفعل أزمة داهمة، ولكنها ليست بفعل سقوط نيزك. أُنظروا كيف يراجع صندوق النقد الدولي مواقفه استعداداً لقمّة العشرين في لندن مطلع نيسان/ أبريل المقبل: sorry، أخطأنا حين فرضنا ما سمّيناه وقتها «إعادة هيكلة» على البلدان الأفقر على حساب التقديمات الاجتماعية... ولكن ما فائدة الأسف وقد مات في الأثناء من الجوع والمرض عشرات الملايين في أفريقيا ومثلهم في آسيا وأميركا اللاتينية.
أمّا بعد، فهل مِن حلّ؟ في أوروبا، تجهد النقابات لاحتواء الغضب واليأس، ولضبط إيقاع التحرّك حتى لا ينفجر. متى ينفجر؟