محمد بنعزيز *مرّت عشرون سنة على توقيع معاهدة تأسيس اتحاد المغرب العربي في مراكش عام 1989. منذ ذلك التاريخ، جرت مياه كثيرة تحت الجسور وفوقها، بل هناك مياه جرفت جسوراً بكاملها في مناطق كثيرة من العالم. بنيت بدلاً منها جسور جديدة واستأنف التاريخ حركته... وفي الحركة بركة، وهذه قيمة كبيرة في الثقافة العربية، فيقول الشافعي منوهاً بأهمية الحركة والتغيير:
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الغاب ما افترست والسهم لولا فراقُ القوس لم يُصبِ.
في شمال غرب أفريقيا، هرمت الأجيال والأسود وهي تنتظر حلم الوحدة. أما مجرى المياه تحت الجسر، فقد أصبح بركة نتناً يوماً بعد يوم، ولا يبدو في الأفق أن الجسر سيعرف ماءً جديداً. المنطقة تسبح في النهر نفسه منذ عقود، وهي تتوغل في أضيق المنعطفات باستمرار، ويترافق التوغل مع رفع شارة اليأس والعناد. يقول الشاعر الجزائري حكيم ميلود يلخص تاريخ المنطقة:
«لم نَحتكِم لغير الطيش
ولم تمهلنا النساء الواقفات على مواجعنا
لنجس مكامن الفداحة في أرحامهن
لكننا كنا دوماً نتوغل في أضيق
المنعطفات، رافعين شارة اليأس».
وهي منعطفات متباعدة. وأمام هذا الوضع، ما من عزاء إلا في التاريخ، وقد صدر عن المركز الثقافي العربي كتاب «مجمل تاريخ المغرب» في مجلد بعدما صدرت الأجزاء الثلاثة متفرقة. في هذا الكتاب العميق، يكشف المؤرخ عبد الله العروي أن انقسام المغرب الكبير قد مس مستويات كثيرة: التاريخ والسياسة والاقتصاد والدين. وقد كان لذلك تبعات تجعل المصالحة صعبة.
ــــ على المستوى الأول اشتكى العروي من أن التاريخ لم يسْلم من الصراعات الآنية، بدليل أن كل دولة قطرية في المغرب الكبير «تسعى لفرض نظرتها المنحازة إلى الماضي المشترك»، أي تقسيم الماضي ليناسب انقسام الحاضر. والنتيجة «على رأس ضحايا الوطنية القطرية الضيقة، خناك بالطبع مشروع كتابة تاريخ المنطقة كوحدة». وفي ظل هذا التوجه الذي تسيطر عليه أحادية النظرة القطرية والأبحاث الجامعية المتخصصة والمفتقدة إلى النظرة الشمولية لتاريخ المنطقة، يرى العروي أن «مشروع كتابة تاريخ عام لبلاد المغرب كان في حد ذاته رهاناً على المستقبل»، وقد أنجز هذا الرهان.
ــــ على المستوى الثاني، وفي إطار تنافسهم المدمر على زعامة سياسية وهمية، تحالف قادة الأقطار المغربية مع البعيد ضد الجار القريب، وقد روجوا ــــ يقول العروي ــــ للأصالة والوفاء والخصوصية الثقافية، وهكذا أضرموا نار التشدد. وحين اندلعت النار حولهم عمدوا إلى العنف لمواجهة التطرف. تنافسوا في خلق المشكل، ثم تنافسوا في الحل، والآن يتنافسون في البديل.
ــــ البديل المطروح ثانية ديني لا سياسي، وهذا هو المستوى الثالث، ويظهر بوضوح في التسابق على من سيبني أكبر مسجد في العالم على البحر، فعلها الملك الحسن الثاني وسيتجاوزه الرئيس بوتفليقة قريباً، مع أن سكان المنطقة مجتمعين في حجم سكان مصر... وآخر طبعة من هذا التنافس هو من يملك ماضي وبالتالي مستقبل الزاوية التيجانية، فالجزائر تستضيف مؤتمرات المريدين والمغرب يعين شيخ الزاوية بمرسوم ملكي. وسبب هذا التنافس هو كسب عمق أفريقي في نزاع الصحراء، لأن النسيج الاجتماعي هناك يتجاوز حدود الدول، لذا يُدبّر استقطاب شيوخ الزوايا لإكرامهم بدل التعاون مع قادة مالي وموريتانيا والسنغال والنيجر...
وتجد الوصفة الصوفية نجاحاً في التطبيق وزخماً في التنظير ما دام معهد «كارنيغي» قد نصح أميركا بدعم التصوف من خلال إعادة إعمار المزارات والأضرحة، ونشر الكتب الصوفية، ودعم الطرق والمدارس الصوفية. بحجة أن الصوفية متسامحة مع العلمانية ويمكن أن تزاحم الحركات الإسلامية الراديكالية.
تضاف إلى هذه المنافسات منافسة طريفة بشأن من يفسر أفضل ويدافع أكثر عن المذهب السني الأشعري المالكي التيجاني الوسطي ضد «المذاهب الدخيلة»... وهكذا تتحول كل مسألة إلى اختبار يعمق التوغل في منعطفات اليأس.
أخيراً، فالاقتصاد أيضاً لم ينج من المنافسة المركانتيلية لا الرأسمالية. لم تَسُد منافسة التحرير والتعاون، بل منافسة مدمرة. ففي سبعينيات القرن العشرين، حين تضاعفت أسعار النفط، قررت الجزائر أن تدخل في برنامج تنموي طموح بمعزل عن جيرانها، ولم تعدْ تقبل أن تعامل على قدم المساواة معهم. وقد ذكر الحسن الثاني أن الجزائريين كانوا يسخرون منه لأنه يزرع الطماطم بينما يستوردون المصانع جاهزة. وقد قرر ماركس أن «التكنولوجيا أكبر وأوسع من مجرد آلة». حالياً المبادلات التجارية المغاربية البينية ضعيفة جداً، ولو فتحت الحدود بين المغرب والجزائر وزاد التبادل التجاري لارتفع الناتج القومي لأقطار المنطقة. يستنتج العروي أن هذه المنافسات «تركت آثاراً سلبية عميقة في النفوس لا نعلم هل ومتى نستطيع أن نتحرر منها».
إذا أضفنا إلى هذا التنافس المركب آلام حرب الرمال 1963 وحرب الصحراء 1975 ــــ 1991، تتضح الأسباب العميقة التي تجعل المشهد سوريالياً: مشهد يتحدث فيه القادة عن الأخوّة والتعاون بين الأشقاء ووو... بينما تحتاج الجزائر إلى طماطم المغرب ولا تفتح الحدود لاستيرادها «إلى حين تسوية القضايا العالقة». فوراً يرد المغرب ويطالب أولاً «بفتح الحدود ومناقشة القضايا العالقة». وحينها تتورط الشعوب في فخ السفسطائيين، ما سيسبق البيضة أم الدجاجة؟ ولتعميق الجراح، تشتد المهاترات الإعلامية وكيل التهم ونشر الغسيل، وطبعاً التسابق لشراء الأسلحة، وحينها يتبدى الأفق رمادياً خطراً، ويحمد العقلاء ربهم لأن لون الطماطم لا يسيل على الرمال مرة أخرى. ومن هذه الزاوية يصبح استمرار الوضع الحالي مكسباً هائلاً.
لكن العروي لا يحمّل الأنظمة وحدها المسؤولية. يقول: «دلت التجربة المطردة على أن عبث الحكام يرتكز على يأس المحكومين». وهنا يظهر الفرق بيننا وبين جيراننا الأوروبيين الذين «قرروا طي صفحات التاريخ الملطخة المؤلمة مع أنهم تقاتلوا لمدة أطول وبصفة وحشية أكثر مما فعلنا نحن المغاربة». طبعاً ما أبعد صراع المغرب مع الجزائر عن اقتتال ألمانيا وفرنسا. الديموقراطيات تجنح إلى السلم والتعاون لتخفض الكلفة على شعوبها، بينما الدكتاتوريات تقتات من النزاعات لتصنع شرعيتها، مما يهيئ الظروف لتلقى الدروس المهينة، وآخر درس قدمه مدير صندوق النقد الدولي دومينيك شتروس ــــ كان، الذي طالب دول المنطقة بأن تتعامل في ما بينها كما تتعامل مع دول الاتحاد الأوروبي. الحد الأدنى هو معاملة القريب كالغريب بدل معاملته كالعدو! وحتى هذا غير متاح. يقول العروي إن عند المغاربة «عجزاً مخيفاً عن اختراع آليات أصيلة لفض النزاعات أو على الأقل التخفيف من حدتها». يرفض استمرار هذا الوضع، ويقترح «آن للمغربي أن يصالح نفسه، وأهم من ذلك أن يهادن أخاه».
كيف؟ أولاً بإذابة الانقسامات العشائرية في بوتقة التنافس السياسي، وبإضفاء الشرعية على السلطة عن طريق «تقديم مبدأ الخدمة على مفهوم القهر»، وطبعاً بتصفية النفوس من الأحقاد الموروثة ليدرك كل بلد أنه لن ينجو بإغراق جيرانه بل بانتشالهم... يقول أرنستو تشي غيفارا: «أنت لا تنقذ نفسك إلا بالسعي لإنقاذ الآخرين».

* صحافي مغربي