strong>معتصم حمادة *خرج الفلسطينيون إلى الحوار في القاهرة، ليس نزولاً عند متغيرات في المواقف مستندة إلى مراجعات نقدية للسياسات التي اتبعتها الفصائل، وخصوصاً حركتي «فتح» و«حماس»، بقدر ما كان الخروج إلى الحوار نزولاً عند متغيرات وضغوطات ووقائع إقليمية وعربية ودولية، فرضت على هذه الأطراف، وكل من موقعه الخاص به، «الاقتناع» بضرورة تلبية الدعوة المصرية إلى الحوار في 26/2/2009. وبعدها إطلاق ورش عمل اللجان في 10/3/2009، من دون أن يعني أن هذا «الاقتناع» قد مسّ تلك القناعات والمواقف والسياسات التي كانت قد قادت إلى الانقسام، أو إلى الطريق المسدود، إن في العلاقات الداخلية الفلسطينية، أو في تبني سياسات جديرة بأن تخرج الحالة الفلسطينية من مآزقها المتعددة.
فحركة «حماس»، على سبيل المثال، ذهبت إلى القاهرة، وكأن التاريخ لديها توقف عند 8/2/2007، حين وقعت مع «فتح» اتفاق مكة، الذي قضى بقيام حكومة فصائلية تمثلت فيها الكتل البرلمانية في المجلس التشريعي، وسميت آنذاك بحكومة الوحدة الوطنية. ورغم أنّ هذه الحكومة لم تعمّر سوى بضعة أسابيع، عاشت خلالها حالة من الشلل السياسي والإداري والخدماتي، ورغم أن نهاية هذه الحكومة كانت كارثية، إذ انهارت على وقع الانقلاب المسلح الذي لجأت إليه «حماس» في 14/6/2007، فإن الحركة الإسلامية تمسّكت في حوار القاهرة بضرورة إعادة إحياء هذه الحكومة، على أن تتولى هي تنفيذ المهمات التي اتُّفق عليها، وتتمحور حول فك الحصار أو فتح المعابر، وإطلاق ورشة إعادة إعمار قطاع غزة، وتوحيد الإدارات الرسمية، وإعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مهنية ووطنية، والتحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة وفقاً للقانون.
ومن يتأمل هذه العناوين، يتبين له مدى الصعوبات التي ستجابه من سيعمل على تنفيذها، في ظل تعقيدات واشتراطات وتباينات في وجهات النظر الإقليمية والدولية في رسم معايير التعاون مع الحكومة الفلسطينية المقبلة.
ومن يتأمل هذه العناوين، يتوجب عليه، في الوقت نفسه، أن يعترف بأن حكومتي إسماعيل هنية الأولى والثانية فشلتا في أداء مهماتهما كما ورد في البيان الوزاري الذي قدم إلى المجلس التشريعي. علماً بأن رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» خالد مشعل، وقبل تأليف حكومة هنية الأولى، كان قد تنبأ بالصعوبات التي ستواجهها هذه الحكومة. لكنه أكد أن لدى الحركة خططاً لتجاوز هذه الصعوبات، معولاً في ذلك في الاعتماد على الحركة الشعبية والحكومات في العالمين العربي والإسلامي، كما وعد بترشيد نفقات الحكومة كي لا يتسع اعتمادها على الجهات المانحة، وخاصة تلك التي رفعت اشتراطاتها السياسية في وجه «حماس».
لكن وعود مشعل وأمانيه تبخرت أمام تعقيدات الواقع. فلا الاعتماد على الدعم الشعبي والرسمي عربياً وإسلامياً نجح في فك الحصار عن الحكومة، وفي توفير التمويل اللازم لأعمالها ومشاريعها، ولا نجحت الحكومة هي الأخرى في ترشيد النفقات، بل لجأت إلى سياسة التوظيف لمعالجة إدارة وأجهزة أمنية ذات ولاءات حزبية. لذلك بنت، في مواجهة الأجهزة الإدارية الموالية لـ«فتح»، أجهزة إدارية موالية لـ«حماس»، كما بنت في مواجهة الأجهزة الأمنية الموالية لـ«فتح»، أجهزة أمنية موالية للحركة الإسلامية، الأمر الذي حمّل الخزينة المزيد من النفقات بدلاً من ترشيدها.
وإذا كانت «حماس» تحمّل الجانبين الإسرائيلي والأميركي مسؤولية فشل حكومتيها الأولى والثانية، فإنها في هذا لا تضيف شيئاً، وخاصة أن نوايا الجانبين الإسرائيلي والأمريكي لإفشال تجربة «حماس» الحكومية كانت معلنة وغير مخفية؛ وهو أمر لم تعالجه «حماس» كما يفترض، بل وقفت عند الجدار المسدود مشلولة، تداري فشلها في تصريحات نارية، من دون أن تسهم هذه التصريحات في حلحلة أي من الملفات العالقة، بما في ذلك توفير المال اللازم لدفع مرتبات الموظفين وموازنات الإدارات.
وهكذا، تؤكد المطالبة بالعودة إلى صيغة مكة، التي فشلت فشلاً ذريعاً، أن «حماس» لم تجرِ مراجعة نقدية لتجربتها، وأنها ما زالت تقف عند مربع المكابرة والمعاندة، وأنها ما زالت تنظر إلى الأوضاع القائمة نظرة غير واقعية، تغلب فيها مصلحتها كحركة سياسية على المصالح الوطنية. إذ يدرك الكل أن حكومة تترأسها «حماس» وتكون لها فيها الحصة الأكبر من المقاعد الوزارية لن تنجح لا في إعادة الإعمار، ولا في فك الحصار، ولا في فتح المعابر، وما زالت أصداء تصريحات الجهات المانحة في مؤتمر شرم الشيخ تتردد هنا وهناك؛ الأمر الذي يتطلب نظرة أخرى إلى الواقع الفلسطيني المستجد، وعلى ضوء المستجدات الإقليمية والعربية والدولية. ويبدو أن «حماس»، وهي تذهب إلى القاهرة، كانت تفتقر إلى هذه النظرة.
بدورها، ذهبت «فتح» إلى الحوار وكأن المسيرة التفاوضية مع الجانب الإسرائيلي تسير إلى الأمام من دون تعقيدات، وكأن التزامات إسرائيل باشتراطات اللجنة الرباعية، وملاحظاتها النقدية، كالاستيطان، لا غبار عليها. لقد سبق للرئيس عباس أن اعترف بأن إسرائيل لا تريد السلام، وأعلن أن لا عودة إلى المفاوضات دون وقف الاستيطان وتشييد الجدار، وعودة جيش الاحتلال إلى خطوط 28/9/2000، وإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية في القدس، عملاً بالفصل الأول من خطة خارطة الطريق.
ويدرك الرئيس عباس أن تحقيق هذه الشروط يتطلب خوض معركة، بل معارك ضد الاحتلال، ميدانياً، وسياسياً ودبلوماسياً، لأنها شروط من شأنها أن تقلب الأمور رأساً على عقب، وأن تعيد وضع الأمور في نصابها الصحيح، وبحيث تتحسن شروط التفاوض الفلسطيني. ومع ذلك، يلاحظ أن وفد «فتح» إلى الحوار ما زال ينطلق، (خاصة حتى تاريخ 15/3/2005) في شروطه وكأن العملية التفاوضية بخير، وكأنه خائف على هذه العملية من الانهيار، لذلك يدعو إلى مواقف معلنة تلتزم الاتفاقات المعقودة مع إسرائيل، في الوقت الذي ما زالت فيه إسرائيل تتجاهل هذه الاتفاقات (أين هي النبضة الثالثة من إعادة الانتشار في الضفة الغربية؟ أين هو قرار 17/10/2000 بحضور الرئيس الأسبق كلينتون بعدم اللجوء إلى إجراءات من جانب واحد من شأنها التأثير على نتائج مفاوضات الحل الدائم، أي كالاستيطان مثلاً؟ لماذا لم ينسحب جيش الاحتلال حتى الآن حتى خطوط 28/9/2000؟ أين هو القرار بتفكيك البؤر الاستيطانية التي أقيمت بعد 21/3/2000؟...).
هناك العشرات من القرارات والاتفاقات التي ضربت بها إسرائيل عرض الحائط، ومع ذلك، لا يزال الجانب الفلسطيني المفاوض، في حضوره إلى طاولة الحوار في القاهرة، يحاول أن يقنع الأطراف الفلسطينية بالالتزام باستحقاقات اتفاق أوسلو، وخاصة السياسية منها. كما خرج وفد «فتح» إلى الحوار وفي جعبته قرار بالاستئثار بالحكومة الفلسطينية الجديدة (الوجه الآخر لقرار حركة «حماس») بذريعة الحاجة إلى حكومة تكنوقراط تكون قادرة على مواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة، بما في ذلك الاستحقاقات السياسية لإعادة الإعمار واشتراطات اللجنة الرباعية والمانحين في مؤتمر شرم الشيخ. علماً بأنه بالإمكان توفير صيغة حكومية لا تستجيب لشروط «حماس» (التي ستغلق الطريق أمام إعادة الإعمار) ولا لشروط «فتح» (التي ستعيد سياسة الاستئثار والاستفراد إلى العلاقات الفلسطينية)، ولا تتعارض في الوقت نفسه مع استحقاقات مؤتمر شرم الشيخ.
لكن إذا كانت «حماس» قد خرجت إلى الحوار لحاجتها الماسة إلى أموال إعادة الإعمار وفتح المعابر، وفك الحصار، ولإدراكها في الوقت نفسه أنها وحدها عاجزة عن تحقيق هذا كله، وأن الأمر يتطلب خطوة نحو الطرف الآخر، فإن «فتح» هي الأخرى تدرك تماماً أن انسداد طريق المفاوضات أمامها، وأن استحقاقات مجيء حكومة نتنياهو، يتطلبان خطوة منها هي أيضاً نحو الطرف الآخر. كما تدرك «فتح» (وهذا هو الأهم بالنسبة لبعض منهم في الحركة) أنها لا يمكن لها أن تتسلم أموال إعادة الإعمار إلا إذا استعيدت الوحدة الداخلية. ولقد كان مؤتمر شرم الشيخ صريحاً في بيانه حين اشترط لصرف أموال إعادة الإعمار، أن يستعيد الفلسطينيون وحدتهم، أي أن يستعيد الرئيس عباس سلطته (أو بعضاً منها) على القطاع ليتولى الإشراف على إعادة الإعمار، وبأموال ذات صفة سياسية بامتياز.
ولاستكمال الصورة، لا بد من أن نقيّم أوضاع الطرف الثالث (أو القوى التي قدمت نفسها باعتبارها مشروعاً لقيام التيار الثالث) أي قوى اليسار (الجبهتان الديموقراطية والشعبية وحزب الشعب). تدرك هذه الأطراف جيداً إلى أي حد يختل ميزان القوى لمصلحة «فتح» و«حماس». وهي تدرك جيداً، بالخبرة، أن باب المحاصصة بين هاتين الحركتين سيبقى مفتوحاً على مصراعيه على حساب باقي أطراف المعادلة الفلسطينية إلى أن يقوم طرف ثالث له وزنه السياسي والجماهيري، لإحداث التوازن المطلوب.
الملاحظ أن هذه الأطراف ذهبت إلى القاهرة دون أن تتقيد بأية اشتراطات تلزمها بالتنسيق في ما بينها، علماً بأن مواقف هذه الأطراف من معظم القضايا المطروحة على جدول أعمال الحوار متقاربة بل متطابقة إذا جاز التعبير. ولقد عقدت هذه القوى اجتماعات في رام الله، وغزة عشية انطلاق الحوار، اتفقت فيه على ضرورة التنسيق وتوحيد المواقف في القاهرة. لكن معظم ما اتُّفق عليه تبخر في الجو، وغاب أي دور لليسار الفلسطيني (ككتلة موحدة) من دون أن يعني ذلك أن أطراف هذا اليسار لم تلعب كفصائل، دوراً في بعض اللجان، وأن ما قدمته من اقتراحات هو الذي مثّل مخرجاً للمأزق في هذه اللجنة أو تلك. إذ ما زالت قوى اليسار تعبّر بمصداقية أوسع، مقارنة بباقي القوى، عن حرصها على المصلحة الوطنية، مستعدة في الوقت نفسه لتنحية مصالحها الحزبية جانباً، إذا ما تطلب الأمر خطوة مسؤولة لمصلحة رأب الصدع واستعادة الوحدة الداخلية.
في كل الأحوال، ومهما كانت النتائج، فإننا لن نخدع بالبيانات المنمقة التي تصدر عن أطراف الحوار. ولا نعتقد أن ثمة بياناً أو وثيقة يمكن أن يتجاوزا في وضوحهما وثيقة الوفاق الوطني (27/6/2006) التي كانت قاسماً مشتركاً لكل القوى الفلسطينية.
لكن التجربة أكدت أن التوافق في 27/6/2006، كان توافقاً لفظياً، لا سياسياً، وأن جزءاً كبيراً من الأمر كان أقرب إلى التكاذب السياسي، والدليل على ذلك أن وثيقة الوفاق الوطني ما زالت معلقة ولم يطبق منها شيء حتى الآن، بل إن بعض من وقعها يتجاهلها أحياناً كأساس لاستعادة الوحدة الداخلية. من هنا علينا أن نتوقع صعوبات وتعقيدات في تنفيذ ما اتفق عليه في القاهرة، لأن من قدم تنازلاً لفظياً هناك، سيحاول أن يتراجع عن تنازله، في الضفة أو في القطاع أثناء وضع آليات تطبيق ما صيغ على الورق من اتفاقات.
* عضو المكتب السياسي
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين