ألبير فرحات *هل سيخوض الشيوعيون الانتخابات النيابية المقبلة لحسابهم أم لحساب الآخرين؟ هذا السؤال الذي يبدو مستغرباً للوهلة الأولى، هو سؤال حقيقي يستدعي جواباً. ويصبح هذا السؤال مطروحاً بحدّة أكبر بعد انعقاد مؤتمر الحزب العاشر: كيف ننظر إلى ما جرى فيه وقبله؟
تعددت الآراء خلال المؤتمر بشأن تقييم أعمال التحضير التي سبقته. وعلى أهمية ذلك، فقد أصبح هذا الشيء من الماضي بحيث سنسعى إلى التركيز على ما جرى أكثر مما على ما كان يجب أن يجري.
نبدأ بعرض أهم وجهات النظر التي طرحت خلال النقاش، ولا سيما ذلك السؤال الخاص بهدف الحزب الاستراتيجي: هل هو حزب للإصلاح أم للتغيير، أو بعبارة أخرى هل هو حزب إصلاحي أم تغييري؟
ذلك لأن النظام القائم لم يعد قابلاً للإصلاح، وأن بقاءه بات يمثّل خطراً على وجود البلد: أرضاً وشعباً، صيغة وكياناً، وليس فقط على هذا الجانب أو ذاك من جوانب الوجود. هذه الحقيقة يعترف بها رهط كبير من الناس يتعدى نطاق الشيوعيين من الذين باتوا يتحدثون اليوم عن أن الأزمة القائمة ليست مجرد أزمة حكم بل أزمة
نظام.
وفي الواقع، فإن جميع مؤسسات الدولة قد أصبحت عاجزة أو مشلولة، بدءاً من رئاسة الجمهورية التي انتُقصت صلاحياتها، ليس بما يضفي على النظام صفة النظام البرلماني كما هو مطلوب، ولكن بصورة كيدية ولمصلحة تحويل رئيس مجلس الوزراء إلى ملك غير متوّج للجمهورية، فيما مجلس الوزراء نفسه لم يعد قادراً على الحكم في ظل الأثلاث «المعطّلة»
و«الضامنة».
أما السلطة القضائية غير المستقلة أصلاً بفعل القوانين المتعارضة مع الدستور التي تكبلها، فقد باتت بدورها عاجزة حتى عن إجراء تشكيلاتها وتعييناتها. المجلس الدستوري مرفوض. المجلس الاقتصادي ـــــ الاجتماعي زائد عن الحاجة التي توفّرها إملاءات البنك الدولي وخيار خصخصة القطاع العام والدولة نفسها. مضت خمس سنوات على عدم إقرار موازنة بحيث يُدار المال العام على أساس القاعدة الإثني عشرية، ويصل الدين العام إلى أرقام فلكية قياساً على حجم لبنان وعدد سكانه. أما في ميدان النظام الانتخابي، فتعود هذه السلطة إلى نصف قرن مضى فيما مشروع القانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية قد دُفن في جوارير رئاسة مجلس الوزراء. أما المواد 22 و24 وكذلك المادة 95 من الدستور فإنها لا تجد سبيلاً إلى تطبيق.
هل في ما نقوله مبالغة أم إنه واقع الحال؟ وهل حالة كهذه تستدعي إصلاحاً أم تغييراً؟
إلا أن الدعوة إلى التغيير لا تعني رفض الإصلاحات الديموقراطية ذات الطابع المرحلي. شرط أن يكون السعي إليها مرتبطاً بالهدف الاستراتيجي النهائي، ومساعداً على الوصول إليه، بما يعني، وبصورة خاصة، رفض «الإصلاحات» من نوع تلك التي قد يعمد إليها النظام القائم من أجل إطالة عمره.
ولكن لماذا كان الإصرار على طرح هذا الموضوع والتأكيد عليه في المؤتمر؟
ذلك لأن الوثيقة السياسية التي طُرحت على النقاش فيه قد جاءت خجولة ومترددة بشأن أمر التغيير.
من ذلك مثلاً القول بضرورة بناء «دولة ذات مؤسسات حديثة وراسخة»، والقول بـ«الخلل في النظام السياسي اللبناني» وكأن المطروح هو مجرد تحديث وإصلاح للخلل. وأخيراً القول في الوثيقة بضرورة «الإنقاذ الوطني» من خلال «مؤتمر وطني للحوار» لأننا نعتبر أنه لو اجتمع جميع ممثلي الطوائف فإنه لن ينتج من ذلك اجتماع وطني، بل اجتماع لكونفدرالية طوائف. علماً بأن هذه المؤتمرات والطاولات استهدفت دوماً وتستهدف إعادة توزيع الحصص «سلمياً» بين الطوائف إمّا لترسيخ موازين قوى جديدة نجمت عن حرب أهلية خاضتها في ما بينها، وإمّا كتمهيد لصراعات دموية جديدة في ما بينها يتم خلالها الأخذ بالقوة، أو الاستعادة بالقوة، لامتيازات سابقة أو مطلوبة في الحاضر. وسيقتصر دور الوطنيين والديموقراطيين إذا ما شاركوا فيها على أن يكونوا شهود زور. ولقد كنّا بين القائلين في هذه المسألة إن المطلوب هو نقد جوهر الدولة اللبنانية القائمة وليس فقط هذا الوجه أو ذاك من تجليات أزمتها، كما ليس أيضاً إعطاء النصائح لأطرافها عن كيفية تجاوزهم لهذه الأزمة.
أما في موضوع الانتخابات النيابية المقبلة، فقد كان هناك إجماع على رفض قانون الستين باعتباره مخالفاً للتعديلات التي أُدخلت على المادتين 22 و24 من الدستور، ولكونه لم يأت نتيجة نقاش في المجلس النيابي بل أُنزل عليه من خارجه ومن خارج البلاد، بحيث اكتفى المجلس بـ«البصم». وعليه فقد دعا بعض المندوبين إلى مقاطعة الانتخابات تأكيداً لهذا الموقف، ولكن أيضاً لعدم إعطاء شرعية للسلطة المقبلة التي ستنبثق عنها، مما يعزز موقف القوى الوطنية، اللاطائفية والديموقراطية، في سعيها إلى تغيير النظام ليس فقط بسبب موته بل بسبب عدم شرعيته الدستورية أيضاً.
إلا أنه قد اتُّفق في النتيجة على خوض الانتخابات، ولكن تحت شعارات معينة، ولا سيما المطالبة باعتماد قانون انتخاب عصري ديموقراطي، واعتبار أن الهدف من خوض الانتخابات ليس «الوصول»، والوصول كيفما كان، بل تحويل هذه الانتخابات إلى مناسبة لطرح قضايا الوطن السياسية، وقضايا الناس المعيشية، وتعبئة الرأي العام حولها. ولقد تأكّد بصورة خاصة على ضرورة ألا يقبل الشيوعيون على أنفسهم بأن يكونوا «رقماً مضافاً» بل قوة مستقلة، تتعاون طبعاً مع مَن يتقاطع برنامجها مع برنامجهم، إلى هذا الحد أو ذاك.
إلا أنّ الإقرار بالشيء غير كافٍ، على أهميته. إذ يجب أن يقترن القول بالعمل بحيث نرى من الطبيعي أن نطرح السؤال الآتي: كيف السبيل إلى أن يخوض الشيوعيون هذه الانتخابات لحسابهم لا لحساب الآخرين؟ وهل الاستعدادات الجارية من جانبهم حتى الآن توصل إلى هذا الهدف؟ جوابنا هو: كلا، للأسف، وحتى الآن.
ذلك لأننا لا نعرف السبب الذي لم يقدم فيه الحزب حتى اليوم على الإعلان عن برنامجه الانتخابي على الصعيد الوطني، وعن مرشحيه في مختلف الدوائر التي يرى من الضروري، انطلاقاً من مصلحته ومن المصلحة الوطنية العليا، أن يخوض الانتخابات فيها بحيث يبدأ كل منهم بطرح برنامجه، وبالعمل بين الناس.
ما يجري حتى الآن، وبصورة أساسية، هي الاتصالات الفوقية التي ينظر إليها البعض في هيئات الحزب القيادية أنها ترمي إلى معرفة ماذا «سيعطينا» هذا الطرف أو ذاك، وكأن هناك أطرافاً «أصلية» في حين أننا من سقط المتاع.
هذا الأسلوب في التعاطي، فضلاً عن كونه خاطئاً من الناحية المبدئية، فإنه قد يجرّ أخطاراً فادحة من الناحية العملية أقلها تضييع الوقت، وتحويل المعركة الانتخابية التي نريد أن نخوضها بين الناس إلى حفلات عشاء يكون حال الشيوعيين فيها كحال الأيتام على مأدبة اللئام.
فهل من سبيل للعودة إلى جادة
الصواب؟
* محام لبناني