كمال خلف الطويل*طالعنا السيد ناهض حتّر في عدد 23 آذار/ مارس من صحيفة «الأخبار» بمرافعة ذائدة عن الدوحة الهاشمية دفعاً لغائلة هيكل عنها، عبر ما يرويه عمّا عرفه عن، وتعرّف إليه من رموز هاشمية عبر عقود خمسة امتدت ما بين عشيّة حرب 48 إلى عشيّة رحيل أبرزهم حسين بن طلال.
ما يهمني هنا ليس ما أورده من «تحليل نفسي» يسم طبائع الملك، بغية مباهاة هيكل بما يظنّه غافلاً عنه، بل أسانيده ومعاذيره التي نثرها في مقاله تبريراً وتفسيراً لمسالك الملك.

جملة إضاءات تنفع هنا في إنارة دهاليز ما جرى:

1. قابل الفريق رياض الملك مطالع مايو 67 بناءً على طلب الأخير... استمع لتحذيره من فخ منصوب من «السوريين» لجرّ مصر لحرب خاسرة، ورغبته في التصالح مع عبد الناصر.

وصل التقرير لعبد الناصر بعد أيام عشرة من إرسال رياض له... والحق أن «التحذير» هذا ما كان له أن يلقى أي درجة من الصدقية أو التصديق، سواء قرأه عبد الناصر في 5 مايو أو 15 مايو، ولسبب يتيم مفاده أن صدقية الملك عند ناصر كانت تحت الصفر، وهو الذي لسعت كل بوصة من جسده خدعة لحسين أو تآمر: انقلاب نيسان 57... استغفار رمضان/ مارس 61.. رعاية الانفصال السوري/ أيلول 61... رعاية انقلاب القوميين السوريين/ رأس السنة 62... المساهمة في حرب اليمن قتالاً للجيش المصري 62ـــــ63... الاشتراك في شكوى شتورا على مصر/ آب 62.

كان ناصر سيفترض ـــــ بل افترض ـــــ أن الملك قصد، أولاً وآخراً، الوقيعة بينه وبين نظام النيو ـــــ بعث في دمشق، الذي لم يكن قد مضى بعد عام على علاقته الطرية به.

2. كثّف الملك محاولته الوصل مع ناصر، بعد تصاعد الموقف إثر غلق خليج العقبة وعبر عثمان نوري السفير المصري لعمان، متوسلاً القدوم للقاهرة.

في خطابه أمام اتحاد العمال العرب يوم 26 مايو اشترط عبد الناصر إزالة «الخونة» ـــــ حسب تعبيره ـــــ ومسمّياً وصفي التل بالتحديد، للنظر في قيام علاقة مستجدة مع عمان.

من هنا مفاجأته بقدوم حسين يوم 30/5 من دون سابق إنذار، فيما طائرته تستأذن في السماح بالهبوط في ألماظة حال دخولها المجال الجوي المصري.

3. اعتاد الملك، وارتضت واشنطن، على التمتع بهامش حركة واسع نسبياً تمليه مقتضيات الحال.

والشاهد أنه ما كان أمامه أيامها من سبيل إلا شدّ ذاك الهامش إلى أقصاه ـــــ برضاها ـــــ عبر التظاهر باندراجه في ركب المواجهة المفتوحة تحت لواء عبد الناصر، فيما قد علِم علم اليقين منذ غلق الخليج أن الحرب آتية وأن إسرائيل لا بد منتصرة.

مضى الملك يمنّي النفس بانحصار المهمة الإسرائيلية ـــــ وهي فعلاً كانت بدءاً منحصرة ـــــ في هزيمة الجيش المصري وإسقاط جمال عبد الناصر.

بل ظنّ وأمل بنفاذه من الأتون محتفظاً بالضفة الغربية، ولا سيّما أنّ طمأنات جونسون له بعد غارة السموع أواخر 66 قد هدّأت من روع خشيته من اختطاف إسرائيل لها.

كان في حسبانه سيناريو تبادلي أسوأ، تقضم إسرائيل بمقتضاه الضفة لتعود لتسليمه إياها بعد توضيب شعبها الفلسطيني و«تأهيله» ليضحي مطواعاً ليّن العريكة خافضاً لمليكه الجناح.

لم ينطبق هنا حساب حقله على حساب بيدر إسرائيل ـــــ مؤيدة بسيّد الجميع الأكبر ـــــ رغم مثابرته عبر عشرين عاماً 67ـــــ87 على محاولة استرداد الضفة لملكه... ولذلك حديث آخر.

4. قام الملك بخطوتين على قدر من الجديّة المضطرة: تمكين إقامة محطة رادار في عجلون (قامت بدورها خير قيام)، وانتشار كتيبة صاعقة مصرية في الضفة.

كل ما سوى ذلك كان مروحة إجراءات نمّت عن التحايل، بل وقدر من التواطؤ: إرسال المقاتلات لقبرص... تضليل رياض بمعلومات ميدانية كاذبة عن اتجاهات الهجوم الإسرائيلي بما كفل درجة من العمى العملياتي غير مبررة... رمزية الاشتباك في القدس تعرّضاً أو دفاعاً. بل إن تيّقن الملك، مع غروب 6 يونيو، أن مصر خسرت طيرانها وباشرت الانسحاب، معطوفاً على استشفافه ضوءاً أصفر أمريكياً يمنح الضفة جائزة لإسرائيل وأداة مقايضة لفرض الصلح لاحقاًً، أفضى به إلى الأمر بتسليم الضفة للغازي دفعة واحدة صباح الأربعاء 7 يونيو.

5. نأتي إلى حديث الخسائر، لنجد كم من الغرابة بمكان اكتشاف أن الموسوعات «المرنة» المتاحة «تتميز» بتضارب في الأرقام لحد الإذهال.

ما يزيد الطين بلّة أن السيد حتر ضخّم «أرقامه» بما يثير في النفس جزع التضليل مقروناً باستهجانه: 553 قتيلاً إسرائيلياً على الجبهة الأردنية!!! حرام عليك يارجل. حتى في الويكيبيديا ـــــ وهي فضفاضة المعايير ـــــ يتحدثون عن 285 قتيلاً من أصل مجموع 780 قتيلاً. وحتى هذا الرقم هو بالقطع على قدر من التزيّد لافت.

كان عمّي عضواً في مجلس الأعيان حينها، وشهد بأم عينيه فضيحة تسليم الضفة، وكيف أدار عامر خماش من عمّان ومحمد سليم البطانية من ضواحي القدس تلك المهزلة المخجلة والمهينة.

ذات الجيش الذي خاض معركة القدس عام 48 بأفضل أداء، وأبلى في معركة الكرامة عام 68 أحسن بلاء، هزمته قيادته وأذلّته في حرب 67 التي لم يتجاوز عدد الشهداء فيها العشرات.

6. نرى الكاتب وهو يقارن عبد الناصر بحسين مصوّراً إياهما بأنهما وقعا في فخ نصبه «أحد ما»، عازياً ذلك إلى كون كل منهما حاكماً فرداً بلا مؤسسات ولا ديموقراطية... إلى آخر المعزوفة.

إن الملك ذهب إلى فخ، فهذا ما يعسر تقبّله. هو عرف بما يدبّر، وناور حتى لا يكشف أنه أحد اللاعبين ـــــ ولو الثانويين ـــــ في هذا التدبير.

وأما أن الديموقراطية كانت ستقي عبد الناصر من الوقوع في الفخ، فهو لعمري من محركات الشجن.

أظن أن بول رينو رئيس وزراء فرنسا عام 40 كان ديموقراطياً حينما سحقت عظام دولته تحت جحافل النازي، وأظن تشرشل كان ديموقراطياً عندما خرجت فلول قواته من دنكرك عام 40 وهو يبشّر بالدم والعرق والدموع، ولا أعرف ترومان إلا ديموقراطياً عندما هزم في كوريا عام 50، وجونسون سليلاً لروزفلت عندما انكسر في فيتنام عام 68 .

والحال أن ملهم «الديموقراطيين» العرب (تشرشل) ارتكب حماقة زج بلاده بحرب مع ألمانيا عام 39 لتتردى من إمبراطورية إلى دولة من الدرجة الثانية إثرها.

بالمقابل، فإن المستبد النموذج (ستالين) فاز فوزاً مبيناً في «الحرب الوطنية العظمى» بازاً به كل مجايليه من الديموقراطيين.

لا علاقة طردية بين الديموقراطية والنصر، ولا عكسية بين الشمولية والهزيمة.

تلك مسألة تحكمها حسابات القدرة والتنظيم والمعلومات والحلفاء و المسرح، وليس ما يرطن به ليبراليون جدد، ولا سيّما من شبّوا على الشيوعية ثم اكتهلوا في رحاب القصور والمخابرات... فنالوا الحسنيين.

ثم، رجاءً، ليس من مقارنة تعقد بين ناصر وأحد من معاصريه، الصالح منهم والطالح، بل يصحّ القول الآن، بعدما تكشّفت كل المخبئات في وثائق الغرب، أن كل من عاداه وحاربه كان بسبق إصرار أو بدون قصد، خادماً لمصلحة الاستعمار والصهيونية.

* كاتب عربي