حسام طوقان *حينما يقرأ المرء إحدى مقالات ناهض حتر، يشعر بأن كتاباته تعبق برائحة وضع أصيل متخيل، أي شرق الأردن؛ تلك «الأمة» الأصيلة حفيدة الأنباط، فنرى أهلها الطيبين المخلصين من «أبناء العشائر» وهم مشغولون بالتعاضد والتآلف من دون غزو متبادل ودون مكدّر سوى الأقدار العمياء، وهم يدعون بعضهم بعضاً على المنسف ويتبادلون الأنخاب على القهوة المرّة لا أي شيء آخر، ويتسامرون على أنغام الربابة الشجية ويتبارون زرافات ووحداناً كي يرنموا مع «عرار» عن عشياته في وادي اليابس.
وكل هذا ما كان لينتهي لولا «الغزو الفلسطيني» الذي أتى كي يهلك الزرع والضرع. كل ذلك بغض النظر إن كانوا أتوا مختارين أو غير ذلك، ودعك من التفاصيل «التافهة» مثل إسهامهم في التعليم وفي الاستثمار، ولا داعي للسؤال عن المساعدات التي كانت تصل باسمهم ومن تسلمها وإلى أين ذهبت... فيحق لأبناء العشائر ما لا يحق لغيرهم وما سُمّي الإنسان إنساناً إلا لأنه ينسى.
لكن يشكو هذا التصور من بعض الهنّات التي لربما تدفع المرء إلى أن يتأنى بعض الشيء وهو يستقبل الخطاب «الحتري». فالحديث عن «أمة أردنية» لهو من الغرابة بمكان بحيث لم نسمع به من قبل؛ فحتى دولة الأنباط التي من المفترض أن تضفي الشرعية على هذا الزعم تمتد حدودها كما يعلم، أو يفترض أن يعلم الجميع، إلى مدائن صالح في المملكة العربية السعودية اليوم، بل وصل حكمها إلى دمشق. وأكثر من هذا، فهذه الدولة كان قد أزالها الرومان وسموها بالمقاطعة العربية (لا السريانية أو غيرها) وبعد ذلك ضموا إليها أقاليم أخرى وسميت بولاية فلسطين الثالثة في العهد البيزنطي، والتي ضمت أجزاءً من فلسطين الحالية وكان جل أبنائها من العرب الأقحاح (وهنا نشيد بكتابات عرفان شهيد ونحيل أيضاً إلى دراسة خليل عثامنة القيمة المعنونة باسم «فلسطين في خمسة قرون»)... فأين هذا من سينارويوهات حتر «الهلال ـــــ خصبية» والشرق أردنية. دع عنك مرور ما يزيد عن الألفي عام عن الدولة المذكورة وكأن أحداث التاريخ من الفتح الإسلامي إلى الزلازل والمجاعات وحركة التنقل السكاني التي عرفتها المنطقة بأسرها هي من سقط المتاع في قاموس حتر. بل ماذا نقول ونحن نعلم أن أهالي شمال الأردن مثل الرمثا والمفرق وما حولها لا تزال ترتبط بروابط القرابة والمصاهرة مع أبناء جنوب سوريا الحالية في مناطق حوران ودرعا؟ بل ماذا عسانا أن نعلق على كون مدينة معان الجنوبية منقسمة بين عشائر حجازية وأخرى شامية، ولا تزال إلى اليوم روابطهم الأسرية بأهل تبوك على خير ما يرام. وكيف علينا أن نتعامل مع العقبة وهي المعروفة بأن الكثير إن لم يكن أغلب سكانها من أصول مصرية، فهل علينا إجراء اختبارات جينية لمعرفة درجة توائمهم مع «الهلال خصيب» أو مع المركب الجيني الشرق أردني؟ ثم ما هو هذا «الهلال الخصيب» الذي يتعارك فيه أبناؤه من فلسطينيين وشرق أردنيين؟
لعل بيت القصيد يأتي في ما صرح به الأستاذ حتر في مقالة سابقة عند إشارته الصريحة إلى تحول المسيحيين إلى نسبة تصل 20% من السكان إذا ما مُنح الشرق أردنيين دون غيرهم حقوق التصويت والجنسية وما شاكل، وهو ما يثير التساؤل، كيف يلتقي اليسار الأممي مع النعرات العنصرية والطائفية؟ أم أن هذا مجرد تسربل بشعارات كبرى تخفي ما وراءها من اعتبارات وحسابات أقلوية ما تخفي؟ ثم أنّى لنا أن نتحدث عن خيار للفلسطينيين كي يختاروا بين الجنسية الأردنية أو الفلسطينية، وكأن الدولة الفلسطينية الحالية ليست اسماً على غير مسمى، أم أن سحب الجنسية الفلسطينية يتضمن بقاء الفلسطينيين بدون حقوق مدنية، مما يفيد بعض المتمولين في الأردن في الحصول على عمالة رخيصة لا حقوق لها إلا الشكوى للمولى، وقد كان لنا في بعض الدول العربية أسوة غير حسنة في هذا المضمار.
من الواضح أن الخطاب «الحتري» يتضمن أشتاتاً غير مؤتلفات، فيسار من ناحية وشرق أردن من ناحية أخرى و«هلال خصيب» من ناحية ثالثة، وحديث عن المسيحيين من ناحية رابعة وهلم جراً... وليت شعري إلى أين يقودنا هذا الخطاب؟ هذا إن كان المقصود منه أن يقودنا إلى أي مكان.
* كاتب عربي