إسكندر منصور *انتهى المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي اللبناني ولم ينته النقاش. فقد حدّدت وثيقة المؤتمر برنامجاً طموحاً للحزب، أساسه العمل من أجل «حكم وطني ديموقراطي» يكون بديلاً للنظام الطائفي الحالي الذي تعدّى كونه خطراً على الديموقراطيّة والمواطنة والمساواة بين اللبنانيين، ليصبح خطراً وجودياً على لبنان كبلد مستقل موحد لجميع أبنائه.
فـ«الحكم الوطني الديموقراطي» الذي يدعو إليه الحزب الشيوعي اللبناني في وثيقته هو «نظام مدني علماني بخصائص لبنانيّة» لا تتعارض فيه العلمانيّة والدين. هي علمانيّة مؤمنة تقوم على فصل الدولة والسلطة السياسيّة ومؤسساتها عن الدين ومؤسساته ــ ليس كإيمان وطقوس وممارسة ــ وعن توظيف الدين في مشاريع سياسيّة، أو كما قالت الوثيقة: «الاستخدام الطائفي المقيت».
لن نناقش هنا الخيار العلماني للحزب الشيوعي فهو خيار في صلب دعوته وفلسفته منذ نشأته حتى اليوم، وإن كان قد غاب هذا الخيار في نهايات السبعينات من القرن الماضي، حيث دعت الحركة الوطنيّة والحزب الشيوعي من ضمنها إلى إحلال «التوازن» الطائفي الذي هو أصلاً مطلب «الإسلام السياسي» بدل التمسّك بالعلمنة والإصرار عليها كخيار إنقاذي لمستقبل الوطن.
كان على الحزب الشيوعي أن يستعيد في وثيقته الأخيرة الربط بين الإصرار والتمسّك بالنظام الطائفي ومعارضة العلمانيّة من جانب الطبقة الحاكمة وديمومة هيمنة البورجوازيّة اللبنانيّة بكل فئاتها. هذا الربط الذي احتلّ جزءاً أساسياً في كتابات مهدي عامل عن الطائفيّة في كتابه «في الدولة الطائفيّة»، وفي فكر الحزب قبل أن يجفّ نهر النشاط الثقافي والفكري في السنين الأخيرة. فالطائفيّة ركن من أسس النظام القائم الذي به تجدّد البورجوازيّة اللبنانيّة هيمنتها.
إنّ دعوة الحزب للعلمنة خطوة ضروريّة وأساسيّة لتفكيك النظام السياسي القائم وتغييره كخطوة أولى نحو بناء الدولة الحديثة العصريّة الديموقراطيّة التي تمثّل إحدى ركائز «الحكم الوطني الديموقراطي» الذي يدعو الحزب الشيوعي إليه.
الدعوة إلى حكم وطني ديموقراطي ليست جديدة. فلقد دعا الحزب الشيوعي إلى «حكم وطني ديموقراطي يمهّد للانتقال إلى الاشتراكيّة» في مراحل سابقة للحرب الأهليّة. فجاءت الحرب الأهليّة لتقضي على عمليّة التغيير السلمي التي كانت في أوجها في مطلع السبعينات من القرن الماضي. حتى إنه ليس من المغالاة القول إنّ أحد أسباب الحرب الأهليّة كان وقف «الهجمة» السلميّة اليساريّة نحو التغيير. لم يكن الطموح نحو التغيير حكراً فقط على الأحزاب اليساريّة، وخاصة التحالف الشيوعي ــ الاشتراكي بقيادة كمال جنبلاط، بل كانت هناك إرهاصات «يساريّة» ضمن حزب الكتائب جاءت الحرب الأهليّة لتقضي عليها ولترسم خطوط تماس طائفيّة جعلت من عمليّة التغيير هدفاً شبه مستحيل.
أما الدعوة الثانية للتغيير التي أطلقها الحزب الشيوعي، فكانت من خلال الدعوة إلى «الثورة الوطنيّة الديموقراطيّة» في أوائل الثمانينات من القرن الماضي. كان الحزب الشيوعي يرى في «جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانية» التي أطلق نداءها جورج حاوي ومحسن إبراهيم ليس فقط مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بل أداة للتغيير الداخلي وإنجاز ما سمّاه «الثورة الوطنيّة الديموقراطيّة».
إن تلازم عمليّة التحرير والتغيير التي دعا إليها الحزب الشيوعي أثارت حفيظة القوى الإقليمية، وخاصة سوريا، وكذلك القوى الطائفيّة من كل مشاربها، فانقضّت على جبهة المقاومة وحلت مكانها «الطائفة المقاومة» التي نجحت في إكمال التحرير وهزم إسرائيل، لكنها وقفت عاجزة أمام أسوار الكانتونات الطائفيّة فاكتفت بكانتونها.
هل كان الحزب مدركاً أن نسبة القوى لم تكن لمصلحة التغيير، وأن شعار «الثورة الوطنيّة الديموقراطيّة» كان أحد الأوهام التي بناها قادة الحزب في ذلك الوقت؟ الآن في مؤتمر الحزب الأخير، جاءت الدعوة الثالثة إلى التغيير من خلال إعادة طرح شعار «الحكم الوطني الديموقراطي». لقد استدرك الحزب خطأه السابق وأوهام التغيير السريع وأقرّ بأن الانتقال إلى مرحلة «الحكم الوطني الديموقراطي» يحتاج إلى تغيير جذري في نسبة القوى السياسيّة والاجتماعيّة لتحقيقه، لأنّ الطبقة الحاكمة لن تقف مكتوفة الأيدي مرحّبة بـ«الحكم الوطني الديموقراطي» مع ما يحمل ذلك من تهديد مباشر لهيمنتها. فالدعوة واضحة لكي يباشر الحزب الشيوعي العمل من أجل تحالف «جبهوي ــ يساري ــ ديموقراطي» ضمن برنامج سياسي واضح المعالم ينقذ البلاد ويقودها نحو «الحكم الوطني الديموقراطي».
إذا كانت المهمة الآنيّة هي تغيير نسبة القوى من خلال تحالف قوى اليسار، فكان من الأفضل أن يعطي الحزب الشيوعي جهداً فكرياً وتصوّراً لكيفيّة إنجاز هذه المهمة. فالوثيقة ذكرت بـ«مواصلة الحوار مع أطراف اليسار وتقويم تجارب العمل المشترك، وتحديد أكثر ملموسيّة للمهمّات والمفاهيم والبرنامج والأطر، في المستوى الداخلي والعربي على حد السواء».
أليس المؤتمر المكان الصحيح لتقويم تجارب العمل المشترك خلال السنوات الماضية؟ أليس المؤتمر المكان الصحيح لتحديد المهمّات والمفاهيم ورسم طريق الحوار؟ أليست السنين الماضية، وخاصة الأربع سنوات الماضية المليئة والغنيّة بالتجارب المشتركة مع بعض أطراف اليسار، كافية للبدء بعمليّة دراسة وتقويم للمواقف والتصورات لمستقبل اليسار ودوره وبرنامجه؟ كنّا نودّ أن نرى المؤتمر العاشر يغوص في تلك الأسئلة بدلاً من جمل غامضة كـ «مواصلة الحوار» وبعض الدعوات والتمنيات في هذا الموضوع.

الملامح المطلوبة

إنّ اليسار «المنتظر» لن يكون فقط، وعلى أهميته، وليد حوار بين قوى اليسار وفصائله داخل القاعات وعلى صفحات الجرائد، بل وليد تجارب وممارسة يساريّة سياسيّة مشتركة في صلبها قراءة مشتركة وتشخيص مشترك ليس فقط للمشاكل والأمراض التي يعانيها لبنان والمجتمعات العربيّة، بل أيضاً طرح الحلول المشتركة للخروج من النفق الطويل. وهذا يتطلّب العمل من أجل نظام انتخابي ديموقراطي جديد، إلغاء الطائفيّة السياسيّة كخطوة نحو العلمنة، تنشيط وإعادة الاعتبار للقوى الاجتماعيّة التي حرفها النظام الطائفي عن مصلحتها في التغيير فأعلى من شأن هويتها الطائفيّة المفتّتة على حساب هويتها الطبقيّة الموحدة، قراءة مشتركة لطبيعة الدور الأميركي «الجديد» ــ القديم وتحالفه الوثيق مع إسرائيل وبناء ممارسة سياسيّة مقاومة أصيلة لهذا الدور نابعة من ظروف لبنان وموقعه وهويته العربيّة، وأخيراً: قراءة مشتركة للحركات الإسلاميّة خارج إطار العداء المسبق المشكّك في كل ما هو ديني؛ وأيضاً خارج إطار الأوهام بأنّ الحركات الإسلاميّة تحمل مشروعاً حداثياً وديموقراطياً نقيضاً لمشروع الهيمنة الأميركي ينقل المجتمعات العربيّة لتعيش العصر. هنا بعض ملامح هذا اليسار «المنتظر»:
أولاً: ميزته الربط بين النظام الانتخابي وإعادة إنتاج النظام السياسي اللبناني الذي يهدف إلى تأمين هيمنة الطبقة السياسيّة ببعديها الطبقي والطائفي. لكن المرحلة التي يمر فيها لبنان تحتّم على قوى اليسار أن تحذِّر من خطورة هذا النظام على وجود لبنان كوطن مستقل موحد عربي الهويّة والانتماء.
لقد برهنت البورجوازيّة اللبنانيّة عن قصر نظرها وغباء لا حدود له ليس فقط في السير في طريق التدمير الذاتي ــ من خلال الحرب الأهليّة ــ لكل مقومات استمرار هذا الوطن، بل أيضاً في إعاقة الحلول القائمة على إلغاء الطائفيّة السياسيّة وإحلال العلمنة كبديل ينقل لبنان إلى وطن الاستقرار والمواطنة والديموقراطيّة. لقد تمادت الطبقة الحاكمة في الإمعان بتدمير الأسس التي تُبقي هذا الوطن موحّداً منيعاً في وجه الرياح الإقليميّة والدوليّة ــ القريبة والبعيدة ــ التي حالما تهبّ، حتى تضع لبنان الوطن وشعبه ووحدته ومستقبله كوطن في مهب الريح. ولنا من التجارب الكثيرة من خلال الأزمات التي عصفت بلبنان منذ الاستقلال حتى اليوم ما يؤكد ذلك.
لقد تخلت الطبقة الحاكمة عن دورها ووضعت زمام أمورها في يد القوى الإقليميّة والدوليّة التي تسلّلت إلى الداخل بكل ترحيب وطمأنينة، فأصبحت «المؤتمنة» على الدار وأصحابه. إنّ برنامج اليسار والدعوة إلى «الحكم الوطني الديموقراطي» كما جاء في «الوثيقة السياسيّة البرنامجيّة» للحزب الشيوعي، خطوة إنقاذيّة قبل أن ينهدم الهيكل على من فيه.
ثانياً: اليسار صوّت من أجل إصلاح النظام الانتخابيّ. ما جرى في الدوحة هو عمليّة مبرمجة لتغييب الوطن والمواطن الحر وإحلال الطائفة ككيان مستقل يفاوض ويناور ويوقّع الاتفاقات. لقد مثّلت العودة إلى النظام الانتخابي الستّيني الذي أُقرّ في اتفاق الدوحة خطوة كبيرة إلى الوراء جعلت إمكان الانتقال من الكيان ــ الطائفة إلى الكيان ــ الوطن بعيد المنال؛ وبذلك أصبح وضع لبنان على طريق الحل والخروج من أزمته السياسيّة المزمنة أبعد مما كانا عليه قبل النظام الانتخابي الجديد.
إن ما طرحته الوثيقة السياسيّة للحزب الشيوعي في هذا الموضوع يمثّل أرضية لبرنامج مشترك تخاض على أساسه الانتخابات القادمة على قاعدة الاستقلاليّة التامة عن 14 و8 آذار.
ثالثاً: اليسار ضرورة لتصويب مسار المقاومة. فإن كان لبنان قويّاً بمقاومته ــ وهذا لا يحتاج إلى برهان بعدما فرضت جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة على إسرائيل الانسحاب من غالبيّة الأراضي المحتلة وبعدها جاءت المقاومة الإسلاميّة لتتابع تحرير ما بقي من الأرض وتهزم إسرائيل في عدوان تموز 2006 ــ فالمقاومة قويّة أيضاً بتماسك الشعب ووحدة الدولة ومؤسّساتها. لقد نجحت المقاومة في تحرير الأرض وهزم إسرائيل إثر عدوان تموز 2006 وتحولت إلى قوة رادعة لإسرائيل من الطراز الأول. لكنها بالرغم من النجاحات بقيت أسيرة طائفتها ولم تستطع أن توظّف التحرير في عمليّة التغيير الحقيقي، الضمانة الأساسيّة للمقاومة واستمرارها ومدها بالدعم والتأييد. من هنا تأتي أهميّة دور اليسار في إعادة الاعتبار إلى مقولة تلازم التحرير والتغيير والدفاع عن الوطن في وجه إسرائيل. وبذلك على قوى المقاومة أن تصبح جزءاً أساسياً من عمليّة التغيير والانتقال إلى «الحكم الوطني الديموقراطي» مع ما يتطلّبه ذلك من خروج المقاومة من عباءة الطائفة «الضامنة» إلى عباءة الوطن الضامن الحقيقي والوحيد.
رابعاً: اليسار صوت العقل في زمن هيمنة اللاعقل على الخطاب السياسي اللبناني. فمع اقتراب موعد الانتخابات النيابيّة، تستعد قوى اللاعقلانيّة لتحتل موقعها في إدارة الحملات الانتخابيّة القائمة على التعبئة الطائفيّة والمذهبيّة والعنصريّة والمناطقيّة والعائليّة والتخويف.
خامساً: اليسار ضرورة اقتصاديّة. لم يبقَ من يدافع ويطرح البديل للعولمة المتوحشة التي قضت على مقومات الاقتصاد الوطني في كثير من البلدان سوى برنامج يساري حقيقي. إن العمل من أجل إعادة بناء نقابات مستقلة ــ كما دعا الحزب الشيوعي في مؤتمره الأخير ــ خارج إطار الوصاية الطائفيّة الداخليّة المفتتة لوحدة العمال والطلاب والموظفين بعدما خرجت من إطار الوصايّة السوريّة، تمثّل أساساً لبرنامج سياسي اجتماعي لليسار «المنتظر».
سادساً: اليسار صوت العلاقة الحقيقيّة بين الوطني والقومي. الوطنيّة اللبنانيّة ليست وهماً ولا خرافة ولا انعزالاً. إنّها تعبير عن إرادة اللبنانيين باتخاذ لبنان وطناً لهم عربي الهويّة والانتماء. عندما جاهر تيار منهم بفكرة الانعزال وتغليب الهويّة الطائفيّة والتنكّر للهوية العربيّة، مع ما تعنيه الهويّة العربيّة من التزامات تجاه القضايا العربيّة، انتفض اللبنانيون على فكرة الانعزال وتمسّكوا بعروبتهم. لم تسئ إلى فكرة العروبة القائمة على اللغة والتاريخ والثقافة أكثر من الفكرة القوميّة المحقّقة من خلال الناصريّة والبعثية التي لم تفشل فقط في إنجاز الطموح المشروع في الوحدة العربيّة، بل هدّدت وحدة الأقطار والأوطان القائمة؛ ومارست الوصاية باسم القوميّة، كما أنعشت فكرة الوحدة القائمة على الضمّ المستوحاة من التجارب الإيطاليّة والألمانيّة، وغيّبت الحريات باسم «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» من دون أن يكون هناك معركة. فاليسار «المنتظر» مدعوّ إلى نظرة نقديّة للمشروع القومي بكل تجلياته التاريخيّة وطرح مقاربة يساريّة علمانيّة ديموقراطيّة نقديّة للمسألة القوميّة عمادها استقلال وطني حقيقي هويته العروبة الإنسانيّة وحريّة كاملة في تقرير المصير بما فيها الطموح المشروع نحو الوحدة العربيّة واحترام الأقليات القوميّة، بما في ذلك حق تقرير المصير.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة