سمعان الطحان (90 عاماً) وزوجته ماري (75 عاماً). سوسان الحاج (76 عاماً) وابنتها حبوبة. جان الحاج وزوجته ريما وأولادهما ماريانا، الياس ونور (8 أعوام). حبيب عبد المسيح وزوجته غادة وطفلهما رافاييل. هؤلاء ليسوا مواطنين استثنائيين في لبنان. كثيرون قبلهم فقدوا بيوتهم فجأة ووجدوا أنفسهم في العراء. انسحبوا بصمت وعانوا بصمت. ماذا لو كان أتيح لهم الكلام؟
مهى زراقط
يرنّ الهاتف طويلاً في منزل روز شقيقة ماري، من دون مجيب. تتكرّر المحاولات يوماً بعد يوم، ولا ينقطع الرنين إلا مساء أول من أمس، مع صوت فتاة سنعرف أنها ريتا، ابنة أخ ماري. تقول إن عمتها غادرت المنزل منذ 3 أسابيع، واستقرّت قبل 5 أيام فقط في قرية زان، قضاء البترون. قبل ذلك أمضت 10 أيام في العناية الفائقة في المستشفى، و10 أيام أخرى في قرية كفرحنتا، البترون أيضاً.
ليست هذه المعلومات إلا موجزاً صغيراً للمواقف التي تعرّض لها العجوزان سمعان وماري، منذ أجبرا على إخلاء منزلهما في الجميزة صباح السبت 7 شباط الفائت. نكتفي بها ونستمع بالتفصيل إلى خريطة توصل إلى زان، تكرّر فيها ريتا جملة «ستمرّين في أرض مقطوعة، تابعي الطريق ولا تظني أنكِ ضعتِ». رغم أن هذه «الأرض المقطوعة» لا تبعد عن البترون أكثر من 20 دقيقة في السيارة.
«حلوة ضِيَعنا، بس فقيرة»، تقول السيدة التي نُقلّها معنا إلى زان، بعدما كانت قد انتظرت نصف ساعة عند الطريق الرئيسية مرور سيارة توصلها إلى القرية. الفقر لا يُخفى، ولا الإهمال الذي تعيشه تلك القرى شبه الخالية من السكان، ما دفع صاحبة كشك الـ«1 دولار» القائم على الطريق الرئيسية في بلدة كور إلى الإعلان عن انتقال «المحلّ» إلى المنزل.
يمكن لسمعان أن يكتفي بهذه الملاحظات ليعلن عدم رضاه عما آلت إليه حياته اليوم، أو ليكرّر جملته «بس يكبر الإنسان بيمشي لورا». لكن هذه ليست كلّ الأمور التي يشكو منها. ابن بيروت الذي عشق البحر منذ كان طفلاً يبحث عن التوتيا في أعماقه، لم يكن يخطر له يوماً أن ينهي حياته في غرفة جبلية، أعارهما إياها أصحابها، لكنها تفتقر إلى كلّ شيء تقريباً. يقول سمعان، وهو يحاول قدر الإمكان إلصاق رجليه بالمدفأة الكهربائية الصغيرة: «ستقطع الكهرباء عند الساعة 2، ولن يعود هناك مدفأة»، يضيف: «أنا بردان، ما معوّد هيك».
ماري، التي تصرّ على القيام بواجبات الضيافة، مؤكدة أن البرد الذي تفرك يداها بسببه لا يمنعها من إعداد القهوة، لا تستطيع إخفاء صوت ارتطام ساقيها بعضهما ببعض. تقول وهي تعاود الجلوس قرب المدفأة أيضاً: «مريضة ورجلاي لا تحملانني. البرد قارس هنا». هي ولدت في زان، لكنها غادرتها شابة مع شقيقيها إلى البترون ثم إلى طرابلس وبعدها إلى بيروت حيث كانا يعملان. كان ذلك في عام 1957 حسبما تذكر «وكان شقيقاي يحتاجان إلى من يرعاهما». بعد سنوات تزوج الشقيقان، وعادت ماري إلى البلدة لكن إقامتها لم تطل، فقد استطاعت العثور على عمل في راهبات «البوزونسون» في وادي أبو جميل وبقيت تعمل فيها حتى عام 1975 لتعود مجدداً إلى القرية مع اندلاع الحرب الأهلية.
العمل أعادها مجدداً إلى بيروت حيث تعرّفت إلى سمعان. «كان جار أخي»، وكان يملك محلاً في الدورة: «أصنع فيه كل شيء، نجارة، ميكانيك، لم أترك مهنة إلا وعملت فيها» يقول. لكن هذا الأمر لم يساعده كثيراً: «كنت كلما قررت أن أركز على عمل ما تغيّرت أحوال السوق واضطررت إلى تغيير مهنتي». لا ينفي سمعان، «المعتّر منذ صغره»، كما يصف نفسه، أنه توافرت له في فترات من حياته مبالغ من المال «كنت أنفقها وكأني ابن أكبر مليونير». يدلّ إلى صندوق خشبي وضع فوق خزانة قديمة «هل تعرفين ماذا في هذا الصندوق؟ فيه عود. أنا عازف عود رافقت صباح ووديع الصافي في عدد من حفلاتهما». عزف العود هواية بالنسبة له، لكنه مثّل في وقت من الأوقات مورد رزقه: «كنت أعلّم من يرغب لقاء عشرة قروش وأؤمن مصروفي».
رغم ضيق الحال، لم يكن سمعان يعرف أن «هيك رح يصير فينا. آخرة مش ع البال». يدلّ إلى أثاث الغرفة التي لم تعد جدرانها تعرف لوناً موحداً بسبب «النش»، ويقول: «هذه السجادة فرشها لنا أصحاب البيت، هذا السرير وهذه الصوفا لهم أيضاً. صرنا مثل الشحاذين». أما ماري فتشكر الجيران الذين ساعدوها على ترتيب الغرفة قبل أن تقول: «الخزانة لي وهذا السرير أيضاً، إضافة إلى أغراض المطبخ». وعندما تلاحظ أننا نطيل النظر في محتويات الغرفة، لا سيما علبة الحليب الفارغة التي تحتضن نقاط المياه المتساقطة من السقف، تعتذر بسبب عدم الترتيب: «تعبانة ومش قادرة رتّب هلق». هي مستعدة لتحمل قلة الترتيب مؤقتاً، لكنها لا تسامح أبداً في كلّ ما يتعلق بنظافة المطبخ والطعام. لهذا السبب، بالدرجة الأولى، رفضت عرض مطرانية الروم الأرثوذكس استقبالهما في مأوى: «كيف يعني بدن يحطوني بمأوى وأنا بعدني قادرة أخدم حالي؟»، لكنها تتابع بواقعية: «يمكن لما يخلصوا الـ7 آلاف دولار اللي أعطونا ياهن بنجبر روح ع مأوى».
سمعان بدوره يرفض فكرة المأوى مطلقاً: «بعدني قادر أتحرّك»، لكنه يتساءل عما تستطيع الملايين العشرة التي دفعتها المطرانية أن تفعله: «امبارح نزلت سحبت مليون» يقول وهو يخرج حقيبته من جيبه ويعرض المبلغ علينا. «وقبل أيام دفعنا 400 ألف ليرة في مستشفى البترون بعدما أمضت ماري 10 أيام فيه. منيح إنو بمستشفى حكومي، من وين كنا بدنا ندفع؟».
يؤلم ماري الحديث عن «سخونتها» التي دفعتها إلى المستشفى فاقدة للوعي. «قصة البيت هي السبب. كنت كاسرة إجري قبل شهرين وعندما شحطونا من البيت رحت أبحث عن مكان يؤوينا. أقمنا فترة في غرفة صغيرة في كفرحنتا لكن الحمام كان خارج الغرفة، أعتقد أن هذا ما سبّب مرضي». يعيد هذا الحديث ماري إلى مشكلتها. نسمعها تعيد حساباتها مجدداً: الغرفة التي وجدناها في الدورة إيجارها 150 دولاراً، الغرفة في كفرحنتا جيدة لأني سأكون قريبة من ابنة أختي لولا مشكلة الحمام، أما هنا في زان... فالوضع كما ترونه.
رغم كل ذلك، يتفق العجوزان على قول جملة واحدة: «لتكن مشيئته». هما مؤمنان بأن الله لن ينساهما ولو نسيهما من يدّعون تمثيله على الأرض.


كان يا ما كان