اليوم صرت خائفة من الحلم لأن أحلامي انتهت. لا أريد أن أصدّق ما يقوله والداي بأن هذا الأمر لن يتكرّر ثانية. لا أريد أن أصدم مرة ثانية». هذا ما كتبته ماريانا الحاج (15 عاماً) على دفترها الزهري الصغير في 4 شباط الفائت.قبل يوم واحد فقط، كانت ماريانا قد سجّلت مشاعر مختلفة. على الصفحة الأولى من الدفتر، الموقعة في 3 شباط والمهداة إلى حبيب وغادة عبد المسيح، كتبت بالإنكليزية وبخط جميل: «الآن وقد خسرا منزلهما، سيعتقدان أنهما باتا وحيدين. لكن، هذا غير صحيح، نحن لن نترككما أبداً». يوم واحد إذاً فصل بين مشاعر التضامن ومشاعر الخسارة، والفرق بينهما كبير. ماريانا التي لم تكن تريد أن تترك حبيب وغادة وحيدَين، وجدت نفسها عاجزة عن مواساة والدها. نقرأ: «حسناً. أنا الآن أواجه الحقيقة. لقد كنت جالسة مع أبي ورأيت الدموع في عينيه. كنت أريد أن أقول له: كل شيء على ما يرام لكني لم أستطع لأنها ستكون كذبة. أتمنى فقط لو أصحو مما أنا فيه».
هذه العبارات لم تبق حبيسة الدفتر، بل نقلت ماريانا بعضها وعلّقتها على باب خزانتها في المنزل الجديد الذي انتقلت إليه عائلتها في منطقة الدورة. هناك، لا يفعل أفراد العائلة إلا التحضّر لليوم التالي. لقد مرّ أكثر من شهر على انتقالهم، لكنهم لا يعرفون شيئاً في الحيّ «ولا نحب أن نعرف»، تقول. تحاول هذه الشابة أن تحكي بهدوء عن الحدث الذي زلزل حياتها لكن الدموع تخونها، كما تخنق صوت الطفلة نور. يبدو الياس (13 عاماً) أكثر تماسكاً. يجيب برصانة عن الأسئلة، وخصوصاً ما يسميه «رحلة الهلاك» إلى المدرسة والعودة منها في الأوتوكار: صرنا نصل إلى البيت عند الساعة الرابعة بعد الظهر.
ماريانا تعود في سيارة الأجرة. تتذكر أول مرة حاولت فيها أن توقف «السرفيس». وقفت معها زميلتها وهي من قالت للسائق: ع الدورة. «كنت متضايقة من فكرة أن تمرّ أكثر من سيارة ولا يوافق أيّ سائق منها على نقلي، وكنت خائفة من الصعود في سيارة ليس فيها ركاب آخرون».
يدور هذا الحديث على مسمع ريما، الوالدة. تعدّ ما يقوله أولادها سبباً رئيسياً لرغبتها في تأمين شقة تضمها وعائلتها مجدداً بعد ثلاثة أسابيع قضتها في منزل أختها «كان أولادي مشتتين وزوجي ينام في مركز خدمته في الجيش». تقول إنها فور انهيار حائط البيت بدأت وزوجها جان رحلة البحث عن بيت للإيجار. «أشرفية، مار مخايل، سن الفيل، النهر... لم نجد بيتاً مناسباً والشقة التي كان إيجارها 300 دولار في مار مخايل كانت تحتاج إلى إصلاحات كثيرة».
مع قرار البلدية هدم بقية البيوت القائمة على الأراضي التي تملكها المطرانية، صار لا بد من البحث عن شقة أكبر لاستقبال والدة جان وشقيقته، سوسان وحبوبة، ووجدتها ريما في الدورة. أول ما فعلته في البيت المحاط بثلاثة مبان تحجب عنه الشمس تماماً، طلاء الجدران بلون البويا نفسه الذي كان في بيت الجميزة وتركيب الستائر الناجية على كل الشبابيك التي لا تطلّ إلا على باطون.
تقريباً نجا معظم أثاث المنزل باستثناء غرفة نوم الياس التي لم يوافق عمّال البلدية على فكها بحجة أنها تدعم جدران الغرفة. في الصور التي يحتفظ بها الياس على حاسوبه يدلّنا إلى «أنقاض» سريره الذي حرم منه، مختلطاً بحجارة المنزل. لا يمنع نفسه من طرح السؤال الذي يتكرر على ألسنة الجميع: «حافظوا على الحجارة، فكوا البلاط ونقلوه سليماً. لماذا رفضوا فكّ غرفتي؟».
في البيت الجديد لم يعد له غرفة وحده، بل يتقاسمها مع شقيقتيه. سريره الخشبي يشبه سريرهما. أما غرفة الجلوس فقد وضع فيها كنبتين يمكن فتحهما مساءً لتنام عليهما ريما وجان، فيما تنام سوان وحبوبة في غرفة النوم الثانية.
كلّ هذه تفاصيل في رأي ريما: «الأهم أننا اجتمعنا مجدداً». تحضن طفلتها نور التي لا تتوقف عن البكاء وتقول لها ممازحة: «ستذهبين إلى الجميزة غداً، عليك التحضّر لأول قربانة». لكن حتى لو لم يكن هناك مناسبة تتعلق بنور، وحتى لو لم تكن ريما تعمل في الكنيسة، باتت زيارة الأخيرة محطة استثنائية بالنسبة للعائلة. تذكر أن يوم الجمعة الفائت، وبعد إحياء شعائر درب الصليب، التقى أولادها بأصدقائهم في الحي وسهروا معهم حتى التاسعة «شعرنا بأن زيارتنا للكنيسة لم تعد للصلاة فحسب، بل لنلتقي بالأصدقاء أيضاً» تقول ماريانا، فيما يهمس الياس، محاولاً التملّص من دوره في إيصال نور إلى الكنيسة: «لكن المشكلة في كيفية الوصول إلى الجميزة...».