يعتبر جسر فقرا من المعالم السياحية الطبيعية المهمّة جداً في لبنان. وهو، اليوم، مهدّد بالتشويه أو حتى بالهبوط. فمالك أحد العقارات المطلة على الجسر ينوي بناء «بيت لبناني تراثي»... ومطعم. سابقاً، رفضت وزارة البيئة المشروع، فتقدم صاحب العقار بدعوى أمام مجلس شورى الدولة. ومصير الجسر بين أيدي القضاة

جوان فرشخ بجالي
يراوح جسر فقرا الطبيعي في مكانه منذ أكثر من مليوني سنة. ومنذ أكثر من قرن لم يتغيّر الكثير من معالم مشهده الطبيعي: أرض جرداء خالية من الأشجار والأبنية. لكن، هذا الوضع قد يتغير إذا ربح أنطوان عقيقي، صاحب مشروع «البيت التراثي» في فقرا، الدعوى الثانية المقدّمة أمام مجلس شورى الدولة. فوزارة البيئة تقف له بالمرصاد، وللمرة الثانية. «بدأت قصة جسر فقرا سنة 1994 حينما انتبه بعض المدافعين عن البيئة والطبيعة في لبنان إلى أعمال البناء التي كانت تجري فوق الجسر. فرفعوا الصوت عالياً، عبر جمعية S.O.S Environnement، من خلال وسائل الإعلام»، كما تقول غلاديس نادر، التي تتابع القضية منذ ذلك الوقت. «وأعلمنا وزارة البيئة، فأرسلت فريقاً من الخبراء (11/1/1995) عاين الموقع وقدم تقريراً أكّد فيه أن أعمال البناء تجري فوق الجسر وأن ذلك مخالف لقوانين حماية الجسر ونهر اللبن. إذ إن قانون 8 تموز 1939 واضح من جهة أنه يمنع القيام بأي عمل فوق الجسر. أما المرسوم الاشتراعي الرقم 434، الصادر عام 1942، فيحدد في المادة الثامنة: «الجسر الطبيعي على نبع اللبن: النطاق المصّنف والمحدّد بدائره قطرها 300 متر من الشعاع الذي يقع في مركزه في منتصف الجسر».
وأتى تقرير خبراء وزارة البيئة (1995) ليؤكد أن الأعمال لا تبعد عن الجسر أكثر من 50 متراً، وأن تدخّل مادة الإسمنت ضمن المواد المستعملة يعدّ تشويهاً واضحاً للمشهد الطبيعي للجسر. فما كان من وزير البيئة إلا أن أصدر قراراً منع بموجبه صاحب المشروع، أنطوان عقيقي، من متابعة العمل فوق الجسر وفي جواره. وجاء رد عقيقي على الرد بأن تقدّم بدعوى قضائية أمام مجلس شورى الدولة، ضد وزارة البيئة (23/2/1996)، مرتكزاً على الإذن الذي أعطته إياه البلدية التي سمحت له باستصلاح الأراضي الزراعية وإعادة بناء الحفافي المدمرة وإنشاء مشروعه.
بعد مداولات طويلة في المحكمة، التي ارتكزت في قرارها على تقارير الخبراء المحلفين لديها، صدر في 20/3/2004، قرارٌ «يبطل قرار وزير البئية» ويسمح لعقيقي بإنشاء «بيت تراثي» على عقاره، وباستصلاح الحفافي، على ألا يستعمل مادة الإسمنت.
اعتبر عقيقي قرار المحكمة إشارة إلى أنه ربح المعركة على وزارة البيئة. لكن، ما إن تقدم بطلب الرخصة لإنشاء بنائه أمام التنظيم المدني، حتى تدخّلت وزارة البيئة من جديد في هذا الملف الشائك، طالبة من عقيقي تقديم دراسة «تقويم الأثر البيئي لمشروعه». فما كان منه إلا أن تقدّم بدعوى ثانية ضد وزارة البئية، أمام مجلس شورى الدولة على أساس أنها تعطّل القرار السابق. ويشرح عقيقي قائلاً: «لقد حصلت على وسام الاستحقاق اللبناني وألّفت كتاباً عن السياحة وتراث كفرذبيان. هدفي من المشروع هو التنمية السياحية التي لا تتوقف على الجمال الطبيعي والآثار، لكن هي بحاجة إلى خلق الجانب الإنساني. لذا، قررت تجميل مشهد الجسر وتحسينه عبر استصلاح الحفافي المهدمة، وبناء مدرج وبيت لبناني تراثي يكون في آن واحد متحفاً صغيراً للتراث اللبناني ومطعماً يقدم الطبخ التقليدي. قررت العمل بهذا المشروع بعد زيارتي للمدرج الروماني في مدينة فيرونا الإيطالية التي تحوي ضمن آثارها جسراً طبيعياً شبيهاً بجسر كفرذبيان. حينها، قلت لنفسي: هذا ما تحتاج إليه المنطقة لإبراز جمالها. لكني عدلت اليوم عن مشروعي الكبير، فلن أبني مدرجاً فوق الجسر، لكنني لن أتخلى عن مشروع البيت التراثي على أرضي».
ويسأل عقيقي عن أسباب رفض مجاراته أو نقاش مشروعه. ويقول إن وزير البيئة الحالي أنطوان كرم هو الوحيد الذي قبل أن يتكلّم معي وينظر اليوم في دراسة «تقويم الأثر البيئي» التي طلبها المجلس الأعلى للتنظيم المدني للتباحث في كيفية بناء البيت من دون الضرر بالمشهد العام. ويؤكد عقيقي أن «نضاله» من أجل مشروعه الإنمائي لن يتوقف، لأن الأفرقاء المعارضين لمشروعه يصوّرونه وكأنه يريد أن يضر بالبيئة ويسيئون إلى سمعته. ويصفهم بأنهم «زعران» يغارون من مشروعي ويريد عبرهم أخصامي أن يحاربونني. ولكنني لن أسكت، وسأرفع صوتي عالياً، حتى أنني سأتداول في هذا الشأن مع رئيس الجمهورية. إنهم يشوِّهون سمعتي».
ما لا يشير إليه عقيقي هو أن «أعداءه» لا ينوون التقدم بأي مشروع على الجسر، وما يطالبون به هو «ترك المشهد الطبيعي على حاله من دون أي إضافات عليه»، كما يؤكد العاملون في وزارة البيئة وفي الجمعيات المدنية. ويطرح عقيقي حلاً على الدولة اللبنانية: «لماذا لا تستملك الدولة عقاراتي في تلك المنطقة، وبذلك تنصفني؟ فأنا لم أشترِ تلك الأراضي إلا بهدف الإنماء السياحي لمنطقتي وقريتي، لكن بما أن القانون لا يسمح بذلك، فلتستملكها الدولة». يذكر أن عقيقي اشترى قسماً من الأرض بعد تصنيفها ومنع البناء عليها (1942).
يبدو كأن المؤسسات الرسمية والجمعيات المدنية، التي تعهدت بأن تدخل في الدعوى مع وزارة البيئة، بدأت تبحث في شأن هذا الحل «المفروض». تقول ريا الداعوق، رئيسة جمعية حماية الأبنية التراثية: (A.P.S.A.D) «ستتقدم الجمعية في الأيام المقبلة بدعوى أمام مجلس شورى الدولة ضد مشروع البناء في منطقة جسر الحجر. وسنسعى، كجمعية، إلى إيجاد الحل الوسط، فلا يتحمل صاحب العقار عبء المحافظة على جمالية الموقع، وفي الوقت نفسه، لا يخسر لبنان أحد أهم مواقعه. لذا، فالحل يكمن في الاستملاك من جانب الدولة اللبنانية».
رأي تشاركها فيه المديرة العامة لوزارة السياحة، ندى السردوك، فتقول: «تعمل وزارة السياحة للحفاظ على المواقع والمناظر الطبيعية في لبنان، وفي الوقت نفسه على حقوق المواطنين. فلهذا الملف شركاء عديدون في القرار، وزارات وإدارات وبلديات. وسيجري التباحث فيه، وربما يكون حل الاستملاك هو الأفضل».
تجدر الإشارة إلى أنها المرة الأولى التي تدخل فيها وزارة السياحة طرفاً في مثل هذا الملف.
يكشف القاضي شكري صادر، رئيس مجلس شورى الدولة، أن لديه «حتى الآن في المحكمة، ملفاً بين طرفين، ولا مشكلة إذا زاد عدد الأفرقاء».
لكن، هل يدعم ذلك قرار حماية الجسر الطبيعي من التشوه؟ يجيب القاضي: «نحن نتبع القانون، ونصوصه. وحتى الآن لم يصدر أي قرار بالنسبة إلى الدعوى الثانية في قضية جسر فقرا».
مصير الجسر في يد القضاء اللبناني. ربما يجد بعض السياسيين في مشروع عقيقي فكرة تدفع «بعجلة الإنماء السياحي في المناطق»، فهل سيحاولون التطفّل على عمل القضاء؟ هل سيحاول مجلس شورى الدولة أن يجد حلاً وسطاً كالاستملاك، مثلاً؟
تجدر الإشارة إلى أن قرار الاستملاك سيمثّل سابقة. فقرارات التصنيف لا تجبر الدولة على الاستملاك، وعادة ما يعمل مع المالكين على تأهيل أراضيهم بشكل يتماشى مع التصنيف ويحمي الحق العام. لكن، إذا ربح عقيقي الدعوى الثانية واستملكت الدولة منه الأرض فسيمثّل ذلك سابقة ربما يعمل على أساسها كل مالك أرض في المناطق المصنّفة لمصلحة وزارات البيئة أو السياحة أو الثقافة.


إشارة

ليس صلباً


يرتفع جسر فقرا الطبيعي، الذي تُطلق عليه تسمية «جسر الحجر» فوق مجرى نهر اللبن. وهو أكبر وأهم جسر طبيعي في لبنان، يعتبر من المناظر الطبيعية المعروفة عالمياً. يعلو الجسر نحو 40 متراً عن قاع النهر وطوله نحو 60 متراً. وعادة ما يستعمله الرياضيون في تمارينهم، بخاصة التي تتطلب النزول والصعود على الحبال. ويمضي محبو النزهات في الطبيعة ساعات في تلك المنطقة التي تكتنز أرضها المتحجرات. لكن، الجسر ليس صلباً بقدر ما يبدو عليه. هذا ما يؤكده تقرير الخبراء الجيولوجيين لدى وزارة البيئة. فهم مقتنعون بأن الارتجاجات التي سيولدها تحرك الشاحنات الضخمة فوق الجسر ستؤدي إلى سقوطه. وتثبت الصخور الضخمة المنتشرة تحت الجسر أن امتداده كان أوسع ولكن الصخور المتصدعة وقعت بسبب العوامل الطبيعية.


فارق غير بسيط

يعتبر أنطوان عقيقي أن جسر فيغا الطبيعي في منطقة فيرونا في إيطاليا هو ما «أوحى له بمشروعه الإنمائي». لكنّ تدقيقاً بسيطاً، عبر الإنترنت، على ذلك الموقع السياحي يُظهر الفارق بين المعلمين، من ناحية الشكل أولاً، والمشاريع الإنمائية ثانياً. فجسر فيغا يرتفع بين 10 و17 متراً عن قاع النهر ويقع في سهل بسيط تحيط به الأشجار، فيما يرتفع جسر فقرا 40 متراً، ويجمع بين ضفتي نهر واسع ويقف ضخماً في منطقة جرداء.
أما الجانب السياحي، فلا يرتاد جسر فيغا إلا محبو السياحة البيئية، التسلق والسير في الممرات الضيقة والخالية من أي مادة إسمنتية. وهذا بالتحديد ما يفتقده جسر فقرا.