لم تشفع جنسية سلمان محمدين له. نقل أصدقاؤه عن سفارة بلاده (السودان) رفضها متابعة وضعه الصحي، لأنه من دارفور، كما عبّروا عن سخطهم تجاه تأخر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة بالسؤال عنه
أحمد محسن
كان سلمان يقود دراجته النارية في منطقة الغبيري قبل بضعة أيام، متوجهاً إلى منزل أحد الأصدقاء. وفي ذلك الليل (ليل الخميس الفائت) تحديداً، كانت الشوارع شبه خالية، إذ كانت وسائل النقل العام في لبنان قد أعلنت الإضراب. لم تطل رحلته إلى منزل الصديق، لأنها لم تنتهِ أصلاً. فاجأه أحد السائقين المسرعين وصدمه بقوة، ليرميه على الأرض، ويغرقه في ظلام حالك. أغمض سلمان عينيه، واستسلم لقوة الصدمة، بينما فر سائق السيارة، دونما اكتراث بالحادثة. استلقى جسد اللاجئ السوداني على إحدى طرقات الغبيري، قبل أن تنقله سيارة إسعاف الى مستشفى بهمن في حارة حريك. في ذلك النهار، لم يكن سلمان يعرف أن رحلته الطويلة من دارفور، ستنتهي على سرير داخل غرفة الطوارئ في أحد مستشفيات بيروت. تمزقت أحلامه بالحياة من دون سابق إنذار، رغم أنه كان قد بدأ يستعيدها أخيراً. يقول أصدقاء لسلمان إنه حاد الذكاء ونشيط، وهو سريع التقدم في دروس الكومبيوتر، التي وفرتها له إحدى الجمعيات الأهلية. أكثر من ذلك، لفت الصديق المذكور، إلى أن سلمان هو ممثل اللاجئين السودانيين في لجنة اللاجئين العامة، التي أنشأها هؤلاء في ما بينهم داخل الجمعية، وقد انتُخب رفاقه قبل يوم واحد من الحادثة.
«المشكلة ليست في سلمان تحديداً، المشكلة في الأسلوب من أساسه»، يؤكد صديق له، قبل أن يخبر القصة كما هي. لا أحد يرغب في معرفة مصير سلمان، بكل بساطة. «المستشفى عالجه واهتمّ بوضعه ولم يسأل عن الماديات» يعلن الصديق، مؤكداً أن المشكلة ليست هنا. تزداد الحرقة في أصوات رفاق سلمان محمدين، أثناء حديثهم عنه. يأتي صوت أحدهم بعيداً، ومشبعاً بالخوف، قائلاً بنبرة تساؤلية: «ألا يسأل عنه أحد لأنه سوداني؟». دخل الرجل الثلاثيني إلى لبنان بطريقة غير شرعية؛ ولا يرى أصدقاؤه العراقيون أو السودانيون ضيراً في إخبار هذه الحقيقة، فقد منحته المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة ورقة تثبت أنه لاجئ. وعلى هذا الأساس، انتظر رفاقه أن تهتم المفوضية بشؤونه، إلا أنهم فوجئوا «بلا مبالاتها»، بحسب أحدهم الذي اتهمها «بأنها تتنظر انتهاء الغيبوبة وموته، حتى تتنصل من تكاليف علاجه». وتجدر الإشارة إلى أن لبنان لم يوقّع حتى الآن اتفاقية عام 1951 أو بروتوكول عام 1967 المتعلقَين بأوضاع اللاجئين، بيد أنه عضو دائم في اللجنة التنفيذية للمفوضية السامية في الأمم المتحدة، وذلك منذ عام 1963، وفقاً لما تؤكده الجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان.
ليس لسلمان أهل أو أقارب. هو مقطوع من شجرة في دارفور، بكل ما للكلمة من معنى. لا يعرف شيئاً عن أهله. حتى إذا أرادوا زيارته، لن يتسنّى لهم ذلك، فالهاربون من دارفور يعدّون ثقلاً غير مرحب به في البلدان التي يلجأون إليها. بدورها، رفضت السفارة السودانية في لبنان استقبال سلمان محمدين، أو التعرف إلى حالته، «بمجرد معرفتها أنه من دارفور» كما نقل أحد أصدقائه، مضيفاً إن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين «غائبة عن السمع». وحدهم أصدقاؤه، الذين يخشون مصيراً مشابهاً، ينظرون إلى عينيه المغلقتين بانتظار موته. المشكلة تتخطى ذلك، فليس من مكان لاستقبال جثته، وإدارة المستشفى لن تجد جهة تتسلّم الجثة في حال وفاته، وقد أوضح مصدر إداري فيها لـ«الأخبار» أن وضع السودانيين مختلف عن العراقيين، إذ تتولى بعض الجمعيات الدينية ترتيب نقل الموتى من اللاجئين العراقيين، ودفنهم في بلادهم. بلاد سلمان غير قادرة على اسقباله الآن، وسفارة بلاده في لبنان غير معنية بالموضوع. ضاق الكون بجسد العامل الثلاثيني، وهو ليس على علم بذلك. على الأرجح أنه يحلم بعودة الهدوء إلى سماء دارفور، إلا أنه لن يراها مجدداً. «لا أمل في استيقاظه من الغيبوبة» أكد أحد الأطباء. هذه ليست الحالة الأولى من نوعها، التي يصادفها المستشفى، لكن لسوء حظ سلمان، تأخرت مفوضية اللاجئين بالاتصال والاستفسار عن الأمر، كما يقول صديق له. وفي الحديث عن أصدقائه، ثمة موجة غضب تنتاب هؤلاء. زميلهم بين الحياة والموت (حرفياً) في المستشفى، وقد نبذه الكون كله، «يضحكون علينا باللغات ودروس الكومبيوتر ويتركوننا ساعة الموت؟» تساءل أحدهم بغصة ثقيلة. وفي سياق مواز، رفضت إدارة المستشفى السماح بالتقاط صور لسلمان «لأن المستشفى تجري اتصالاتها في الموضوع». فات الإدارة أن تذكر أن سلمان بلا أهل وبلا وطن: مجرد «جثة» تنتظر إعلان الموت، وما سيأتي بعده من عواقب.