منى عباس فضل *لا مبالغة في القول إن تفاصيل تاريخ البحرين سيف ذو حدين، ولا سيما حين يتعلق الأمر بادعاء أن البحرين جزء لا يتجزأ من إيران. لماذا؟ لأن الوقائع التاريخية تثبت بما لا يدعو للشك عروبة البحرين وانتماءها القومي من جهة، ومن جهة أخرى تضع نظام الحكم في مواجهة تحديات عميقة بعلاقته ومسؤوليته تجاه من يحكمهم ويدير شؤونهم، كيف؟
عند مقاربة الوقائع التاريخية، يمكن العودة إلى كتاب المحامي والوزير السابق حسين البحارنة، عن دعوى السيادة الإيرانية على البحرين. فالكتاب يعتمد على وثائق بريطانية ومراسلات جرت في القرنين الماضيين بين المسؤولين البريطانيين في الخليج وحكومة الهند ووزارة الخارجية البريطانية من جهة، مع المسؤولين الإيرانيين من جهة ثانية، بشأن النزاع الذي استمر 150 عاماً وحتى صدور قرار الأمم المتحدة الذي أقر عروبة البحرين، وصدّقه مجلس الأمن الدولي والبرلمان الإيراني بمجلسيه التشريعيين في أيار / مايو 1970.
من الوجهة القانونية الدولية، يشير حسين البحارنة إلى أنه إذا خضعت البحرين للسيادة الفارسية قبل عام 1783، وهو العام الذي سيطر فيه عرب العتوب على البحرين، فذلك يعني أن الدولة الفارسية فقدت في وقت من الأوقات ملكيتها أو سيادتها على البحرين.
أما إذا امتلكتها أو بسطت سيادتها عليها، فإنّ بسط السيادة يكون إما عن طريق الاحتلال أو عن طريق الغزو. ومن جهة الاحتلال كوسيلة لامتلاك الأرض، يعني أن الأرض لا مالك لها كما لا تمثّل جزءاً من ممتلكات دولة أخرى. إذ في حقيقة الأمر البحرين كانت أرضاً مأهولة بسكانها الأصليين. أما ما يتعلق بالسيادة، فالضرورة تفرض توافر نية الاحتفاظ بالأرض والممارسة الإيجابية لسلطة الدولة، لهذا فمجرد تأكيد الحق من الجانب الفارسي ليس كافياً إذا لم يُستتبع بممارسة لسلطة الدولة الفارسية في البحرين بعد عام 1783، ما يعني انتفاء اشتراط توافر مبدأ الإدارة أو الاستعراض السلمي المتواصل للسلطة كأساس لإثبات الحق.
من جهة الغزو، تكون السيادة لمن ينجح في إخضاع أرض كانت قد اكتسبت عن طريق الغزو وضم الغازي لها وإرساء سلطة دولة فاعلة عليها. ولو افترض جدلاً أن مملكة فارس اكتسبت حقاً شرعياً بغزو البحرين، فإنها لم تستطع الاحتفاظ بهذا الحق والتمسك به وصدّ الآخرين عنه، ولا سيما بعد طردها وطرد واليها عام 1783. بهذا تفتقر الدعوى الإيرانية إلى الحجج القانونية السليمة. كما أن استناد أي مطالبة على أساس الصلة التاريخية بالجزيرة، التي غالباً ما يتم الزعم فيها بأن البحرين مثّلت على الدوام ومن دون انقطاع، جزءاً من بلاد فارس، ما عدا أثناء الاحتلال البرتغالي (1522 ــ 1602)، لا تنطبق على الحقائق التاريخية؛ فمنذ عام 1844، أنكرت السلطات البريطانية في الهند المزاعم الفارسية آنذاك، وقالت «ربما كانت البحرين تابعة لإقليم فارس عندما كانت الجزيرة تحت الحوزة الفعلية للفرس. غير أن الزعم بأن الحكومة الفارسية كانت تمتلك هذه الجزيرة باستمرار منذ عام 1300 للميلاد مخالف لأفضل الأدلة التي يمكن إبرازها بشأن هذا الموضوع».
وعليه، فإنّ المطالبة المستندة إلى البعد التاريخي من دون برهان أو دليل على وجود ممارسة فعلية للسلطة على البحرين، لا يمكن الاعتماد عليها حجةً قانونية لإثبات الحق. في السياق استطرد المؤلف في شرح القضايا المتشعبة، كالإحصاء السكاني ونسبة المسلمين الشيعة من الفرس... وإجمالاً خلص إلى أن تلك المعطيات مضافة إليها الوقائع التاريخية تثبت عروبة البحرين أرضاً وشعباً.
إذاً تبقى الإشكالية حين النظر إلى البعد الآخر لتاريخ البحرين، وخصوصاً عند تتبّع ما يجري حالياً فيها من تجاذبات سياسية ذات مظاهر طائفية ــ فئوية تتعلق بتعديل الدستور، وتداول السلطة، وصلاحيات السلطة التشريعية، وانتشار الفساد، والتجنيس السياسي، والفقر والبطالة، وشيوع العنف والعنف المضاد، والأخذ بالمعالجات الأمنية عوضاً عن الحوار السياسي... التي هي بمجملها تعبير فاقع عن حالة تاريخية ممتدة من الصراع السياسي المشوب باحتقان طائفي وطبقي بل ومعاناة وآمال كثيراً ما حمل ثقلها المواطن في سعيه للحياة في وطن آمن يوفر له سبل العيش والكرامة.
ثمة ما يرجح القول إنّ الوقائع التاريخية التي تناولها البحارنة في تحليله الافتراضي والقانوني تجعل من الادعاء المتكرر عبثاً سياسياً لا طائل منه، ولا سيما عند النظر إلى رأي بعض المحلّلين السياسيين الذين وجدوا في السلوك الإيراني تعبيراً عن مأزق مع الذات والآخر، في ظل ما تتعرض له إيران من ضغوط تفرز الرغبة في استعراض العضلات. بعضهم الآخر يرى أن الإيرانيين لا يسعون في صيغتهم الإسلامية الجديدة إلى بسط هيمنتهم على دول المنطقة، وهم لا يحلمون حتى ببعث إمبراطورية قورش أو بإحياء الإمبراطورية الصفوية أو بسيطرة دولتهم عبر جيوشها وأساطيلها الجرارة، إنما يتطلعون إلى أداء دور يتلاءم وكونهم قوة إقليمية كبرى في الشرق، أضف إلى ذلك، تصريحات الدبلوماسية الإيرانية في المنامة أخيراً، التي برّدت الرؤوس الحامية وأعادت الهدوء، حين أكدت أن آراء الادعاء لا تعبّر عن موقف الجمهورية الإسلامية، وأن الحكومة الإيرانية تلتزم التسوية التي توصلت إليها الدولتان تحت مظلة الأمم المتحدة.
إذاً، يبقى أن تنطلق قراءة التاريخ البحريني في حدّه الآخر، من كونه تاريخاً يتراكم من فعل البشر لا فعل الزعماء أو الفئات أو القبائل فقط. فالقراءة لهذا الحد قد تسهم في إعادة صياغة علاقة البحريني بوطنه وتاريخه وبما يتّسق مع المنطق ومع متطلبات العصر التي تفرض وجوده كشريك بحسب نص الدستور. فالمواطن ليس جزءاً من غنيمة مستباحة، وبالتالي عليه ما عليه من مستوجبات المواطنة وله ما له من حقوق. وتاريخ البحرين لا يمكن حصر تكوّنه وتفاعله في إطار الاحتلالات أو الغزوات، بل هو قائم على فعل المواطن الأصيل الذي نشأ وترعرع وعانى شقاء هذه الأرض وقسوتها، ومارس أجداده عملية الخلق والإنتاج في مهن الصيد والزراعة التي مثّلت ظاهرة حضارية امتدت عبر أجيال وسلالات من خلال تطورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وفعلها السياسي الذي رُسمت معالمه في سياق مقاومة مستمرة للظلم والاستبداد.
وقد عبّر شعب البحرين عن خياره حين زاره مندوب الأمم المتحدة في 1970، برفض التخلي عن هويته العربية وتأكيد انتمائه إلى المجتمع العربي وقبوله بمبدأ التعدد الذي يحكمه العقد الاجتماعي، وهو المدرك حق الإدراك أنه كان حينها يرفض الانتماء إلى استبداد تولّد حكماً من رحم سلالة إمبراطورية، تماماً كما يرفض حكم أي ظلم واستبداد مهما أخذ شكلاً سياسياً ــ دينياً أو طائفياً.
بذلك، يكون التاريخ «الدلموني» سيفاً ذا حدين، حد يأخذ بالوقائع التاريخية التي تثبت عروبة البحرين وشعبها، وآخر يضع تحديات جوهرية أمام النظام الحاكم في تحديد طبيعة علاقته بالمواطن في سياق تلك الوقائع وبما يتأسس عليه وطن تحكمه دولة قانون إيجابية تمارس العدالة والحق والمساواة كمكوّن جوهري لمفهوم المواطنة، أو عوضاً عنها ترجيح كفة العلاقة التي تحكمها الحلول الأمنية وموبقاتها في ظل غياب العدالة وانتشار الفساد. حقاً إنه تحدٍّ جوهري.
* كاتبة بحرينية