سعد الله مزرعاني *يدور سجال مستمر بشأن ما ستكون عليه الحكومة المقبلة في حالتي الربح أو الخسارة لهذا الفريق أو ذاك من تجمعي 14 و8 آذار وحلفائهما، بعد الانتخابات النيابية التي ستجري في السابع من شهر حزيران المقبل. وتتوضح تباعاً الأبعاد والمرامي الحقيقية الداخلية والخارجية لكل من طرحي الموالاة (فريق 14 آذار) والمعارضة ممثلة في جناحها الأساسي فريق 8 آذار المتحالف مع «التيار الوطني الحر» برئاسة العماد ميشال عون.
قلنا تتوضح الأبعاد والمرامي الحقيقية الداخلية والخارجية، لأنه، ههنا أيضاً، تتبلور وتتفاعل العوامل المحلية والإقليمية والدولية في الصراع في لبنان وعليه بطريقة تكتسب، مع احتدام المعركة ومحاولة كل فريق الفوز بالأكثرية فيها، أشكالاً صريحة وواضحة وحتى فجّة!
في حديث له في ندوة في العاصمة البريطانية، شدّد رئيس «تيار المستقبل» النائب سعد الحريري، على الصفة «المصيرية والتاريخية للانتخابات النيابية المقبلة». كما جدّد التأكيد على توجه فريقه لتأليف حكومة ذات لون واحد، أي لا تضم ممثلين عن المعارضة بنسبة الثلث كما هو الأمر حالياً. سمّاها «حكومة متناغمة» ليؤكد ضمناً، أن حكومة شبيهة بالحكومة الحالية ليست واردة في تخطيط فريقه، في المرحلة المقبلة. لكن الحريري لم يكتف بذلك، بل أضاف البعد الاقتصادي للمخاطر، بل للأخطار، التي يمكن أن تنجم عن تحول المعارضة الراهنة إلى أكثرية بعد الانتخابات النيابية المقبلة.
هذا «التطور» أو التداعي في الصراع وفي كشف وإبراز الأدوات والعناصر المستخدمة فيه، ليس أمراً مستغرباً. مثل هذا التصعيد كان متوقعاً. إنه نتيجة طبيعية لحجم الاستقطاب الخارجي للوضع اللبناني، ولترابط العوامل الداخلية في الصراع مع تلك القائمة في المديين الإقليمي والدولي. ونحن نقع هنا، ببساطة، على فريق لبناني (فريق 14 آذار) وهو يحاول استثمار كل عناصر قوته القائمة في علاقاته الخارجية، العربية والدولية، بما في ذلك الجانب الاقتصادي.
يخبرنا الحريري في لندن، أن «لبنان سيواجه أوقاتاً صعبة جداً تهدد استمرارية نموه الاقتصادي إذا فازت قوى الثامن من آذار في الانتخابات النيابية في حزيران المقبل».
الواقع أنّ هذه المسألة ليست تفصيلية، في الواقع اللبناني الراهن. فلبنان يعاني أزمة اقتصادية كبيرة جداً. وهذه الأزمة مرشحة للتفاقم بسبب تداعيات الأزمة المالية العالمية عليه. يقلل المسؤولون اللبنانيون من حجم هذه التداعيات، بسبب بعض ضوابط النظام المصرفي اللبناني التي كان قد أسس لها المرحوم إدمون نعيم عندما كان حاكماً للمصرف المركزي في ثمانينيات القرن الماضي والتي اعتُمدت لوقف المضاربة على العملة اللبنانية بالشكل المخيف الذي كانت تحصل به تلك المضاربة.
والمسؤولون الذين يفرضون على لبنان المضي في السياسة السابقة نفسها وهي سياسة لحس المبرد وتعظيم المديونية وإهمال بناء مقومات اقتصاد وطني قادر على النمو والتطور، ويعتمدون على القروض الميسرة والهبات وإعادة الجدولة والودائع الخليجية... إن المسؤولين هؤلاء من فريق الأكثرية، يهددون، ببساطة، بأن الدول «المانحة» العربية والأجنبية الحليفة لهم، لن تواصل دعمها الراهن. وسيؤدي ذلك إلى عواقب يجب أن يتصدى لها الناخب اللبناني وأن يخشاها فريق 8 آذار الذي يسعى إلى الحصول على الأكثرية النيابية!
المساعد الحالي لوزيرة الخارجية الأميركية بالوكالة، جيفري فيلتمان، الذي كان سفيراً في لبنان حتى أواخر عام 2007 وكان يُلقبه كثيرون بـ«بقائد ثورة الأرز»، يخبرنا القصة نفسه أيضاً. فقد توقع فيلتمان «تقييم شكل برامج المساعدة الأميركية في لبنان في إطار نتائج الانتخابات البرلمانية والسياسات التي ستعتمدها الحكومة اللبنانية المنبثقة عنها».
قبل المصالحة السورية ـــــ السعودية، كان يمكن لأحد مسؤولي المملكة أن يطلق أيضاً مثل هذه التهديدات الأميركية. لكن قيادة المملكة مضطرة إلى مراجعة سياساتها في المنطقة عموماً وحيال سوريا ولبنان خصوصاً. وسبب المراجعة، كما هو مؤكد، فشل المراهنات السعودية على نجاح «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الأميركي، واضطرار واشنطن إلى إقرار خطة انسحاب من العراق، هي في الواقع، تعبير صارخ عن فشل إدارة بوش التي عاقبها الشعب الأميركي من خلال إسقاط مرشح الحزب الجمهوري لمصلحة الرئيس باراك أوباما الذي وعد بالخروج من العراق واتخذ «التغيير» شعاراً مركزياً لحملته الانتخابية.
يجب أن نشير بين أمور أخرى لا يمكن تناولها جميعها هنا، إلى أن استخدام الضغط الاقتصادي أيضاً، كان ولا يزال أحد الأساليب الفعّالة التي استخدمت في سبيل فرض سياسات من جانب الجهات الدولية والعربية التي عملت تحت المظلة الأميركية ومشروعها في المنطقة. والوضع الفلسطيني، وخصوصاً بعد نجاح حركة «حماس» في الحصول على الأكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني، هو أخطر دليل على ذلك. وقبل ذلك، مارست الولايات المتحدة حصاراً همجياً أيضاً على العراق دفع ثمنه الشعب العراقي وأطفال العراق، قبل سواهم.
هذا إذاً، سلاح معروف في الحروب التي تقع بين الدول. وهو سلاح يستخدمه طبعاً القوي ضد الضعيف، من أجل إخضاعه أو إسقاطه.
ماذا تفعل المعارضة في مواجهة هذا الاحتمال؟ قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من التأكيد أن الأطراف الأساسية في المعارضة، لا تقلل من شأن هذا التهديد. ويمكن هنا استعادة تقدير سياسي من نوع أن القوى الخارجية الداعمة لفريق 14 آذار لن تترك حكومته تسقط تحت وطأة انهيار اقتصادي مرشح لبنان له بسبب المضي في السياسة الاقتصادية الراهنة. ذلك يعني نوعاً من التعويل على هذا الأمر: في التصدي للانهيار المتوقع ولمنع انعكاسه السلبي على موقع المقاومة وعلى الحد الأدنى من توفير الأساس الاقتصادي الداخلي لمواجهة عدوان إسرائيل في حال حصوله.
لا شكّ بأنّ مجاهرة المعارضة برغبتها في تأليف حكومة وحدة وطنية وإعطاء ثلث معطل (أو ضامن) فيها إلى فريق 14 آذار، في حال الفوز، هو على علاقة بهذا الأمر. لذلك علاقة أيضاً بخلق حالة من الاسترخاء في صفوف «تيار المستقبل» خصوصاً. فهذا التيار يحتاج كثيراً إلى رفع مستوى التعبئة في صفوف أنصاره إلى الحد الأقصى، من أجل دفعهم إلى المشاركة بنشاط، وإلى الذروة الممكنة، في الانتخابات.
لكن فريق 14 آذار، وخصوصاً على لسان سعد الحريري في الداخل وفيلتمان، إنما يشير إلى أن المعركة قد تتخذ فعلاً، في حال فوز المعارضة وحلفائها، شكل عقوبات اقتصادية متنوعة.
لا يستطيع حلفاء المعارضة تعويض هذا الأمر بشكل كافٍ. لقد قدمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مساعدات كبيرة من أجل معالجة آثار العدوان الإسرائيلي على لبنان في عام 2006. لكن حدود المساعدة الإيرانية محكومة بقدرات الاقتصاد الإيراني. وهذه القدرات تتناقص، حالياً، مع تراجع أسعار النفط إلى مستوى ثلث ما كانت عليه في العام الماضي. ثم إن الجمهورية الإسلامية تقدم أيضاً مساعدات كبيرة إلى الشعب الفلسطيني لمواجهة الحصار على غزة ومحاولة إسقاط المقاومة فيها. ورغم حسن النوايا، فإن الحل يجب البحث عنه في مكان آخر. وهذا المكان هو الاقتصاد اللبناني نفسه. وهنا تطرح ضرورة أن تمتلك المعارضة مشروعاً لإنهاض الاقتصاد اللبناني، من خلال تنمية حجمه وتطويره، وخصوصاً عبر اعتماد سياسات ومشاريع لتعزيز القطاعات المنتجة في الصناعة والزراعة والسياحة. وهذا الأمر يتطلب إدارة نقاش جدي ونوعي بشأن العنوان الاقتصادي في الظروف الراهنة: محلياً وإقليمياً. والعنوان الاقتصادي يقود حتماً وحكماً إلى العنوان السياسي: أي إصلاح النظام السياسي اللبناني بإزالة المرتكز الطائفي فيه وبإقرار نظام نسبي للانتخابات النيابية، وبتحرير القضاء وبمحاربة الفساد...
إنه التحدي الأكبر أمام لبنان لا أمام المعارضة فقط: فمن أين نبدأ ومتى؟
* كاتب وسياسي لبنان