أنسي الحاجهل حقّاً الملحد ملحد؟ تمرّ أوقات أظنني كذلك، ثم يتبيّن لي أن التمرّد الذي شعرتُ به لم يكن أكثر من نفاد صبر. نفاد صبر من طقوس، وقيود، وكنائس. نفاد صبر من العاملين بها. من المتعصبين والمجمّدين والدمويّين. من متصنّعي التقوى.
الإلحاد إخلاء للروح من كل قوّة غير قوّة الذات. أأنا قوي؟ أأنا قوي بذاتي؟ لمَ، إذاً، أشعر وراء كل كلمة بقوّة تصدر منها الكلمة، قوّة هي التي تعطيني القوّة؟
كثيرٌ من وجوه الإلحاد مصدره الخوف من الظهور مظهر المفتقر إلى السخرية، إلى درع الهزء، إلى ذكاء التمسخر ورجولته.
في الوقت ذاته إن قلت «مؤمن» لا أشعر بها هكذا، كما تبدو، ولا كما تَصِل. لا مؤمن ولا ملحد بل مُقرّ بمنطقة في نفسي لا تطالها يد الهزء. ماذا يمنعني من تجاوز هذه المنطقة؟ أهو الخوف من مواجهة الفراغ؟ الخوف من الحريّة؟
■ ■ ■
كتب مكسيم غوركي رسالة إلى صديقه أنطون تشيكوف يروي له فيها أنه قبل أيام استيقظ من نومه في ساعة مبكرة «فرأيتُ فتاةً في لباسِ النوم جالسةً على حافة سريري. فابتدرتني بسؤالها إيّاي أأؤمن بالله؟ وإذ كنتُ على ثقة من أني في حلم، أجبتُ الفتاة عن سؤالها بما أعتقد في الله، وفي أشياء أخرى. فنهضَتْ عن السرير ومضت إلى غرفة مجاورة. وما كادت تتوارى حتى خرجتْ من الغرفة صيحة وحشيّة تبعتها صرخات زوجتي وشقيقتها والخادمة. وعرفتُ في الحال أن زائرتي هي شقيقة أحد جيراننا، وقد أصيبت بالجنون فجأة».
ويسأل غوركي صديقه: «أشعر يوماً بعد يوم بفظاعة الناس وقسوتهم حتى لا تميّز بينهم وبين الوحوش. إنهم بحاجة إلى الله ليخفّف من وطأة الحياة عليهم، لكنّهم في الواقع ينكرون الله وعلى شفاههم ابتسامة ساخرة، وتراهم يهزأون بالذين يؤكدون وجوده (...) أحقّاً إن الله ضرورة لنا؟ ألا يمكننا أن نستغني عنه؟».
■ ■ ■
... وهل كانت روائع المبدعين استغناء عن الله، أم غرْفاً من وجوده فيهم، أو ايغالاً في التفتيش عنه، وربما اصطناعه، داخل اعماقهم؟
من الإيمان ما هو انتقام، وأكثر الإلحاد كذلك. الأول انتقام من عجز الذات، والآخر من غياب اللّه في الملمّات. وإذا سلّمنا بالعجز، فمَن يُفتينا حول غياب الله؟ هل هو غائبٌ حقّاً حيال الآلام والمظالم؟ ألا يعرف الخير، ألا يعرف الحق، ألا يعرف الجمال، ألا تعرف القدرة هزائم؟ لو كان اللّه ذلك الغلاّب الدائم الغلبة على الشرّ، في الزمان والمكان اللذين يعيّنهما الإنسان، أكان للشرّ وجود؟ وإذا انتهى الشرّ أمام اللّه بالضربة القاضية، هل يحتمل الإنسان حياته بلا ملح الشرّ؟ أما كانت قيامته ستقوم استنكاراً لهذا الطغيان؟ أليست فلسفات الحريّة، في مناحيها الرومنتيكيّة بالأخصّ، تمجيداً للتمرّد والعصيان، والتمرّد والعصيان أليسا اسمين آخرين للشيطان؟
غالباً ما يقود «الظنّ العاطل» جدالنا حول اللّه. هذا في المطلق، فكيف عندما تدخل عوامل الانتماء والتعصّب؟ و«الظنّ العاطل» هو نفسه ما يُرينا الشرّ، هو نفسه ما يُفتّح فينا ينابيع الهجوم والعنف. وكيف كنّا سنعرف لولا «الظنّ العاطل»؟ الظنّ البريء طفلٌ مدهوش، وإن عذَّب هرّته فهو لا ينوي شرّاً بل يلعب لعباً، دون خطّة سوداء. حتّى الطفل الساديّ بريء لأنه لا يعرف أنه ساديّ. الارتكاب مع المعرفة هو الشرّ.
■ ■ ■
لعلّ المشكلة مع الإيمان هي، في بعض وجوهها، مع الذين دعونا إليه عبر الدعوة إلى الإيمان بهم، فإذا قلنا إيمان اقترنت الفكرة بأشخاصهم، ممّا يحوّلنا أتباعاً لنوعٍ من الحكّام، وهذا ما نرفضه عندما نعيه.
عكس هذه النظرة قول بعضهم إن الإيمان هو هو اللّه، فلا نتوقّفْ عند دُعاته ولا نسمح لطباعهم باستفزازنا. إذا سلّمنا بالشق الثاني من العبارة فكيف نفسّر، بالنسبة إلى الشق الأول، حضور اللّه أحياناً في غير المؤمنين، لا في الذين كانوا يحسبون أنفسهم حياله لامبالين فحسب، بل رافضين لمفهوم الألوهة؟ سؤال آخر: إذا كان الإيمان من النوع الذي يومض وميضاً خاطفاً في بحرٍ من ظلمات الشكّ أو صحراء اليقين، فهل يكتفي اللّه بالانوجاد في حدود لحظة كهذه ثم يتوارى؟ وإذا استمرَّ الشعور بالإيمان على ثبات، ألا يتحوّل إلى جماد؟ وما جدوى إيمانٍ لا يضطرم؟ وحين يَشْرع في التوقّد، يهدّد بالانحراف تعصّباً، وماذا يبقى من وجه اللّه في عُلّيقة التعصّب؟
«عنده إيمان» يقول الفرنسيون، أو «معه إيمان». نعمة... هديّة أم شكلٌ من أشكال حبّ الذات؟ الاثنان. حَسَب الشخص. البسيط، «القطيعي» على لغة نيتشه، إيمانه يبدو لمَن يراه من خارج، كتلةً واحدة، صمّاء كصخرة. المعقَّد، الرجراج، إيمانه أكثر إرهاقاً له من عدم إيمانه. إن لم يتحلَّ بصلابة إيمان البسطاء تحوّل إلى أرجوحة حارقة. أمّا في الحالات المحض تظاهريّة، فهو عاجزٌ حتى عن توفير أيّة حماية للذات الأنانيّة من فرط ما يسيطر عليه صقيعُ الداخل، صقيع الخواء. لا يكون الإيمان نعمة، في العادة، إلاّ عند مَن لا يميّز نعمته عن «طبيعيّته». تتراءى نعمته للناظر فيشتهيها، أكثر ممّا يشعر بها صاحبها فينخطف بها. وتنسحب هذه الظاهرة بوجهٍ عام على مختلف النِّعَم.
■ ■ ■
... أمّا الكفر فغضب، والإلحاد الفلسفي أو المادي، «الطبيعي»، يقدّم نفسه كحالة مطمئنة إلى منطقها، هادئة، لا «تُخانق» نفسها ولا حتّى الخصم، إلاّ من قبيل التسلية أو الاحتراف. الكفر حالة وجدانيّة ملتهبة، حانقة، متهجّمة، وفي معظم الأحيان صبيانيّة، لا يحتاج الناظر إلى كثيرِ تقليب ليكتشف أن وجهها الآخر، هذه الحالة الصراخيّة، هو الإيمان.
كلُّ الحياةِ عند الطفل معلّقة بنظرة. هذه النظرة هي أمّه، ابتسامتها. لو انتقلت هذه الابتسامة إلى الكائن عندما يكبر، لا من أمّه حصراً بل من المصدر الراهن للطمأنينة، أكان الأب أو الأم أو الحبيبة أو الكنيسة أو الصديق، لراحت كتلة القلق، عوضَ أن تتفاقم وتتحجّر في صدره، تتقلّص وتتفتّت تحت إشعاع الحضانة. نظرة، أو شعور، ذلك الشعور الخفيّ، المجهول المَنْبت، وتلك الابتسامة المزيج من حدب وهيبة، ماذا يطلب الكافر أكثر؟ ألم يثر ثورته عندما تفقَّد هذا الاهتمام ولم يجده؟ ألم يشعر بالأرض تنزاح تحت قدميه لأنه أحسّ أن تلك الحضانة تخلّت عنه، ولو كان تخلّياً موقتاً أو من باب الامتحان؟
خطأ فادح قصْر الحضانة على الأولاد. كلُّ الناسِ أولاد، وأشقى من أشقى الأولاد، وجميع الناس يصبحون، حين تقذف بهم الظروف في المفاوز والمتاهات، لُقطاء مخلّعي الأجنحة، فهل من العدل تركهم يتخبّطون طي العواصف دون حماية؟
... ولكن مَن أوجب حضور الحماية ساعة يريدها المحتجّ؟ ومَن يعرف ما هي؟ أليست قمّة الغرور أن يزعم الإنسان رسم الحدود وتحديد الواجبات على هوى عقله ومقاس حاجاته؟
أليس ذلك تقليصاً للألوهة إلى تخوم العرض والطلب، إلى قانون الاستهلاك؟ أليس جوهر الإيمان، على النقيض تماماً، استسلاماً لأحضان الحبيب، حيث تغدو النتائج ثمرة شراكة؟
■ ■ ■
أَتساءل ولكنْ عن غير اقتناع.
أقَتنع، عندما أَقتنع، بدون حماسة.
التعزية التي في القلب لا تخرج إلى الشفتين والتعزية التي على الشفتين لا تدخل إلى القلب.
■ ■ ■
... سببٌ آخر يتذرّع به الإنسان لنفوره من الإيمان هو تعالي اللّه. المسافة الساحقة التي يقيمها ـــــ على ما تروي التوراة، مثلاً، مراراً وتكراراً ـــــ بين جلاله وبين الإنسان.
ولكن هل تلك المسافة الساحقة السحيقة هي ازدراء لقَدْر الإنسان أم العكس؟
لنسمع إحدى القصص.
تحكي التوراةُ في سفرِ الخروج حكايةَ ظهورِ ملاك الربّ (أي اللّه نفسه) لموسى على جبل سيناء. فقد تراءى له الملاك في لهيب من وَسَط عُلّيقة تشتعل بالنار ولا تحترق. وبعد حوارٍ بينهما حول مصر وضرورة الخروج منها «إلى أرضٍ طيّبة واسعة، أرضٍ تدرُّ لبناً حليباً وعسلاً...»، خاطب موسى اللّه قائلاً: «ها أنذا ذاهبٌ إلى بني إسرائيل فأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإن قالوا لي: ما اسمه، فماذا أقول لهم؟»، فقال اللّه لموسى: «أنا هو مَنْ هو». وقال: «كذا تقول لبني إسرائيل: أنا هو أرسلني إليكم (...) هذا اسمي للأبد وهذا ذكري من جيل إلى جيل».
■ ■ ■
يفسّر لنا اللاهوتيون هذا الجواب تفسيراتٍ عديدة على مرّ الأزمنة، ومن أقربها عهداً إلينا، وبحسب قواعد الصرف والنحو العبريّة كما ورد في الترجمة اليسوعية للكتاب المقدّس الصادرة عن دار المشرق عام 1989، التفسير القائل إن عبارة «أنا هو مَن هو» تعني «أنا هو الكائن»، فاللّه، «هو الكائن الوحيد حقّاً، أي إنه سامٍ ويبقى سرّاً في نظر الإنسان».
ويتراءى لنا، بعيداً عن بواهر أيّة عوسجة ملتهبة، أن اللّه أو كتّابه في الأسفار الدينيّة غيورون عليه ضنينون بوهجه يأبون له أن يقع في متناول الاعتياد البشري. وأوّل الألفة التسمية. لا يُراد رفع الكلفة بين اللّه والإنسان، مهما بلغت محبّة الخالق لمخلوقه. لقد فوّض اللّه إلى آدم أن يُسمّي المخلوقات كلّها ولكنه لم يَبُح له باسمه هو. هذا الحدّ الفاصل لم يتبدّل في العهد الجديد، رغم التجسّد، وهو آية الحبّ الإلهي العظمى للبشر. الحدّ الفاصل لغوي، وسيبقى اسم اللّه «أنا هو الذي هو»، لأن القناع هنا لا يحمي وجه حامله بل بَصَر الناظر إليه. والمؤمن لا يرى في هذه المسافة إقصاءً له ولا استصغاراً بل يعتبرها، وعن حقّ، غذاءً لعبادته. فليس ما يغذّي الحبّ أكثر من السرّ الذي لا يُهْتك.
عبّر رُواة التوراة عن غضبات اللّه أكثر ممّا عبّروا عن مراحمه، مع أن حوافزهم لنشر الإيمان في قبائلهم كانت أكيدة وأغراضها معروفة. لماذا إذاً تلك الصور لربّ القدرة والاستئثار والثأر؟ لأن اللّه، حتى في ضوء هذه التخيّلات المخيفة، كان، في مفهومهم للعلاقة بينه وبينهم، يعبّر لهم عن حبّه. كان مفهومهم لحبّه يمرّ خلال السطوة والخضوع، وكان الفريقان مطمئنين إلى هذه المعادلة. وما زال يهود اليوم مطمئنين إلى هذه المعادلة، رغم ما امتُحنوا به وما امتحنوا هم الآخرين به. كسرت المسيحيّة حاجز الخوف، فيسوع هو الفادي لا المعاقِب، وهو المحبّة لا الصاعقة، لكنها لم تكسر جدار الكلفة والسرّ المقام مع اسم الآب. وسواء سمّيناه الربّ أو اللّه أو يهوَه لا نزال نخاطبه من وراء الستار. ومهما أغدقنا عليه من صفات لغوية فإنها لا تُدخلنا إلى حميميّاته. يريدنا بعيدين ليكون قريباً.
ذلك أن الحياة هي الخليقة الأولى قبل الإنسان، هي المحبوبة الأولى لخالقها. الحياة الدافئة السحيقة الغور لا يُستبعد أن تكون قد تلقّت السرّ من الخالق بحيث استقام بينهما حديث يمرّ من فوق الإنسان أو من حواليه ولا يشعر به. فلنتصوّر الحياة صديقة الخالق الأولى ومساعِدَتَه في إبلاغ رسائله. وهل أجمل منها؟ وما الذي يشبه الخالق غير الحياة وما الذي يشبه الحياة أكثر من الإنسان وسائر الخلائق؟ كلّها حكاية حبّ مشكلتها الحفاظ على الرتب والدرجات وعلى غموض وجه القدير الشديد وضياع مفتاح الصندوق الذي أودعه اسمه الحقيقي، يوم كان وحيداً بين وحيدين يحلم بتنظيم الفوضى، ويخطّط لكي تُنجب كلمته وعيناه وخياله ويداه ما ربّما لم يخطر بباله أنها كائنات ستمرض وتموت، بل كلُّ ما سَحَره في تفكيره عنها أنها ستكون تجسيداً للحياة، أنها ستكون حركة الحياة في أبهى أشكالها وأسخى سخائها وأسطع براهينها عليه.