Strong>ليس من السهل أن تكون أميركياً وتحطّ في أحد المخيمات لتساعد أبناءه من دون أن تكون في كنف إحدى الجمعيات. وليس من السهل أيضاً أن يطمئن أبناء المخيمات إلى غريب سبق أن عمل في إسرائيل، كمستشار نفسي للأطفال ليسمحوا له بدخول منازلهم. في مخيم مار الياس ظنوه «عميلاً»، لكن تلك النظرة تغيّرت عندما أتى أطفال فلسطينيون إليهلم يعرف الأميركي ديفيد بيركس أن طريق القدس، التي سلكها عام 2004، ستوصله إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان بعد عامين من ذلك. فقد ترك هذا الاختصاصي في مساعدة الأطفال من ضحايا العنف، إسرائيل التي جاءها للعمل مستشاراً نفسياً للأطفال، متوجهاً إلى لبنان. قراره ذاك جاء بعدما «اكتشفت وشاهدت وعايشت معاناة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية» كما يقول، وهو أمر لم يكن ليخطر بباله قبل أن ياتي إلى هنا. تغيرت نظرة ديفيد إلى الفلسطينيين الذين كانوا بالنسبة إليه «بسبب التربية التي تلقيتها» مجرد «أشخاص يريدون قتل الإسرائيليين» كما قال لـ«الأخبار»، التي التقته في مكتبه في مدرسة الجالية الأميركية في منطقة رأس بيروت. هذا الاعتقاد كان سبب «ذهابي لأساعد أطفال إسرائيل، فهذا ما كانت تظهره لنا وسائل الإعلام الأميركية، وهذا ما تربّيت عليه». لكن نظرة دايفيد تغيرت تجاه «الإرهابيين» عندما التقى رجلاً مقدسياً وأطفاله على الرصيف في القدس. يشرح كيف أن فضوله دفعه ليقترب من الرجل الذي كان «أول فلسطيني أقابله». لم يعرف كيف سيتصرف. لكنه سأله السؤال الوحيد الذي كان يعتمل في رأسه وعقله: «لماذا تقتلون الإسرائيليين؟ ماذا تريدون منهم؟». لكن ما أجاب به الرجل، صدم دايفيد الذي كان يتوقع إجابة «نضالية» ما . فقد قال بكل بساطة: «لا شيء. أريد أن يعيش أولادي بسلام وأن يذهبوا إلى المدرسة كغيرهم من الأطفال». هذا الجواب ترك ديفيد حائراً لفترة، ثم قرر أنه «في المكان الخاطئ» لمعرفة مدى صواب حقيقة كهذه. هكذا، انتقل إلى الضفة للعمل مع الأطفال الفلسطينيين والتعرف إلى هؤلاء عن كثب. ذهب ليكتشف الفلسطينيّين لكنه وجد نفسه أمام «الوجه الآخر» للإسرائيليين، وكيف يتصرف هؤلاء، وخصوصاً جنودهم، مع الفلسطينيين المدنيين والعزّل. كان درساً، تلقّاه الرجل ليقرّر بعدها مغادرة الضفة إلى قطاع غزة، حيث اطّلع على ظروف حياة الغزاويين الصعبة: الكثافة السكانية العالية، والأوضاع المأسوية المعيشية تحت الحصار. كان شعور الذنب والخجل يرافقه، وماضي أفكاره إضافةً إلى دعم حكومته لإسرائيل. وكان عقد عمله قد انتهى وحان وقت ذهابه إلى الدنمارك. هناك، للمصادفة، كان جيرانه فلسطينيين. كما تعرّف إلى صاحب دكّان فلسطيني، فكان يمضي الليالي برفقته مستمعاً إلى قصة تهجيره من أرضه عام 48، وكيف أنه رغم حصوله على الجنسية الدنماركية مصمّم على العودة إلى فلسطين. ترك ديفيد الدنمارك وحطّ رحاله في تركيا. هناك عمل مستشاراً في إحدى المدارس، لكنه لم يحبّ عمله، «فالهدف لم يكن المال بل المساعدة الفعلية لمن يحتاج إليها». قرر ديفيد ترك كل شيء خلفه وعاد مجدداً إلى الضفة، ومن هناك إلى الأردن ثم... إلى لبنان ومخيم مار الياس. هنا عمل ديفيد في اختصاصه، في مدرسة الجالية الأميركية. لكنه أراد العمل في المخيمات الفلسطينية، فكان له ما أراد.
لا يزال دايفيد يتذكّر الصورة الأولى للمخيم لأنه ببساطة لا يستطيع أن ينسى «ضيق المكان، والكثافة السكانية». تعرف ديفيد إلى أبي محمد والد مترجمته، الذي تبنّاه معنوياً فنشأت علاقة ودية بينهما، وخصوصاً أن ما جمعهما هو «حبنا لفلسطين».
يتذكر ديفيد اللحظة التي أهداه فيها أبو محمد الكوفية الفلسطينية، وكيف تلفّع بها وهو عائد إلى منزله «شعرت حينها بأنني بالفعل أحد أبنائه». في لبنان «تملّى» بيركس من معرفة الوضع الاجتماعي للفلسطينيين مع كل زيارة كان يقوم بها إلى المخيمات. قارن وضعهم بوضع الفلسطينيّين في المهجر وفي فلسطين نفسها. لم تعجبه طريقة تعاطي اللبنانيين معهم. لا بل إنه يصفها بأنها «أسوأ من معاملة الإسرائيليين»، فهو يستطيع «فهم أن يحاصرني عدوي، لكن أن يأتي الحصار من أخ لي فهذا صعب»، يقول. يستغرب ديفيد قرار منع الفلسطينيين من ممارسة 70 مهنة في لبنان: «أتفهّم أن يمنعوهم من العمل محامين أو أطباء لكن منعهم من العمل سائقي سيارات عمومية، فهذا ما لا أستطيع فهمه».
أحب بيركس أن يفعل شيئاً للأطفال، فاقترح أول نشاطاته: «تنظيم الرحلات». كان الهدف اصطحاب 20 ولداً في رحلة كل مرة إلى مكان مختلف، ودائماً مع أصحاب من اللبنانيين، لكن بعد محاولات عدّة، لم يُكتب النجاح للمشروع. والسبب؟ «خوف اللبنانيين الذين أعرفهم من التعامل مع الفلسطينيين». سبّب فشل المشروع إحباط ديفيد، لكنه عاد ونهض من جديد بمشروع آخر هو «الثلاثي المرح». الفكرة بسيطة: أن يأخذ أحد المتطوعين طفلين فلسطينيّين في نزهة ليوم واحد يكون النشاط الأساسي فيها هو اللهو. يتحدث ديفيد عن الأطفال كأنهم أولاده. يتكلم عن ذكائهم وكيف صُدم عندما رأى الأطفال فرحين بـ«السلّم الكهربائي في المجمّعات التجارية. فكانوا يصعدون عليه كأنهم في كرنفال. فقلت في نفسي: إذا كان شيء بسيط كالسلّم الكهربائي بمثابة كرنفال للأطفال فلماذا لا نقدّم ما هو أكثر؟» لكن أصعب ما واجهه بيركس هو «الحاجز النفسي بين اللبنانيين والفلسطينيين». لذا، توقّف العمل في مشروع الثلاثي المرح، أو بتعبير أدق خفّ بريقه. فالهدف الأساسي كان دمج اللبنانيين مع الفلسطينيين، وهو ما فشل في تحقيقه. أمّا الآن؟ فأغلب متطوعي ديفيد «دوليون من مختلف الجنسيات». حالياً يحاول ديفيد أن يعيد الزخم إلى المشروع رغم العوائق. في الفترة الأخيرة وخلال العدوان على غزة كان ديفيد في عطلة الميلاد مع أهله في أميركا، وقد «شاهدت ما يحصل عبر العين الأميركية». بالنسبة إلى أهله «تعاطفوا مع الإسرائيليين، فشرحت لهم حقيقة الصراع على الأرض»، ويقول: «استطعت أن أغيّر بعض أجزاء الصورة، لكن من الصعب تغييرها كلها». في أميركا استطاع بعض أصدقاء ديفيد أن يتفهّموا عمله مع الفلسطينيين في لبنان، لكن المشكلة كانت في اللبنانيين «الذين كانوا يستخدمون تعابير عنصرية في وصفهم للفلسطيني»، ما سبّب «خسارتي بعض أصدقائي». رغم الصعوبات بقي لديفيد مشروع يرغب في تنفيذه قبل ترك لبنان. فهو سيقدم مشروعاً إلى المدرسة التي يعمل فيها لكي «تعطي منحة كاملة للطلاب الفلسطينيين من مرحلة الحضانة حتى تخرّجهم منها، فبهذه الطريقة بإمكاننا أن ندمج طفلين فلسطينيين في كل صف».


صور الأطفال