على ساحة السهر اللبنانية، يتعايش نوعان من الحانات، لكل نوع منهما إيقاعه ونظمه القيمية والاجتماعية الخاصة: في أحدهما، يصبح الزبون مجرد رقم إضافي في الحشد، يعجز عن بناء إلفة حميمية مع المكان وأهله من رواد وموظفين، وفي الآخر، يتسنى له «اجتياز» البار واختيار أغنية يرغب بالاستماع إليها
رنا حايك
«اليوم عيد ميلادي»، أسرّ «البارتندر» في حانة «by the way» في شارع المكحول (الحمرا) لزبونين يجلسان على البار أمامه. لم تنقض دقائق على هذه المكاشفة، حتى تدفق إلى تلك الحانة الصغيرة الدافئة زبائن محملون بعلب وأكياس ملونة، هدايا لأحمد في عيد مولده. في تلك الحانة، يتجاذب أحمد أطراف الحديث مع زبائنه من دون أن يفرض نفسه عليهم، يسألهم عن أحوالهم، يوليهم اهتماماً مهذباً وخدمة لائقة وينسج معهم علاقات لا تخرج عن النص الذي يملي قواعد العلاقة بين الطرفين. يدير إيقاع «الكرّ والفرّ» بخفة متقنة، فيقترب من الجالسين ويتبادل معهم الأحاديث بودّ، ثم ينسحب بهدوء في اللحظات التي يرتئيها مناسبة.
في الشارع المتقاطع مع المكحول، عند المفرق المؤدي إلى شارع بلس، تضيء الزاروب الموارب لافتة صغيرة تشير إلى «الباروميتر»، مرشدة السياح إلى الحانة المعتمة الحميمية التي تتّسع، رغم ضيق مساحتها النسبي، لمئات من رواد الحمرا، وتقدّم أطيب «فتوش وسودة مطفاية بدبس الرمان».
الباروميتر أصبح معلماً أساسياً من معالم شارع الحمرا، ومقياساً مصغراً (كما يشير المعنى الحرفي لاسمه) لواقع شبابه ورواده من الناشطين سياسياً أو فنياً أو أدبياً أو مدنياً أو اجتماعياً، ولكنه ليس مقصداً لهؤلاء فقط، أنغام موسيقى المكتبة العربية الكلاسيكية المنبعثة منه طوال مساءات الأسبوع منذ السابعة حتى العاشرة ليلاً تستقطب مختلف الشرائح العمرية لاحتساء كأس مع مازة على وقعها، أما خلال نهاية الأسبوع، فإن الموسيقى الصاخبة التي تضجّ في المكان، تدفع بالدبيكة، يحيطون بطبلة صاحب المحل ربيع الزهر، إلى احتلال المصطبة الخارجية حتى في عز البرد.
كل الوجوه مألوفة في الباروميتر. كل اللقاءات فيه ممكنة، غير متعمدة، وتلقائية، كزبائن المحل الكثيرين. هو «بيتهم». فيه، يناولون رمضان، أمهر الطباخين، الصحون عن طاولاتهم ليخففوا عنه عبء الخدمة في ذروة «العجقة». وفيه، يتناوبون على اختيار ترتيب الأغاني التي يودّون سماعها، على جهاز الكومبيوتر خلف البار، حيث يصبون كؤوسهم أحياناً تفادياً للانتظار من كثرة الزحمة، بعد أن يكتبوا ما استهلكوه على الورقة الصغيرة التي يجمع عليها رمضان حسابهم النهائي آخر السهرة.
في الباروميتر، تسهر بين أُناس تعرف أسماءهم ويعرفونك. تأكل، تناقش، تحب، تضحك، ترقص، أو تتربع على «الكرسي»، وتداعب القطة البيضاء التي «تلفي» على المحل منذ فترة ولا يطردها الموظفون. وإذا كنت تنتظر أحداً، فلن تملّ من الانتظار، ستقرأ الإعلانات التي تملأ الباب الخارجي عن مواعيد بيروت الثقافية والأدبية والفنية والمدنية، أو تتحدث مع السهيرة والنّدل من دون توجّس. أما إذا كنت «مخنوقاً»، فقد يحملك عبد الوهاب وهو يصدح «أنا من ضيّع في الأوهام عمره» إلى أماكن الشجن اللذيذ وأنت تشخص في صورة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، «المشظاة» بآلاف الصور الصغيرة التي تكوّن العمل التجهيزي، تقابلها على الحائط المواجه صور التقطتها عدسة المصور اللبناني فؤاد الخوري: شيريهان وحيدة في قاعة سينما خاوية، وتحية كاريوكا بعد انقضاء «شباب امرأة»، ويسرا الفاتنة في أحد مواقع تصوير فيلم «حرب الفراولة».
إذا زاد اكتئابك، أو زادت جرعات مشروبك عن الحد، فسيلتفون حولك ويخففون عنك، قبل أن تنتهي السهرة على أمنية أن «تصبحون على وطن».
في المقلب الآخر من المدينة حانات ومرابع ليلية أوسع، لا يقصدها روادها قبل التأنق الكامل ووضع القناع الاجتماعي البورجوازي اللائق شكلاً وسلوكاً.
أمامها، يأخذ «الفاليه» السيارة، ويفتح الباب «لليدي»، لتبدأ عند الساعة العاشرة والنصف ليلاً سهرة تتسارع عقارب الساعة خلالها، ويختزل زمن السهر بساعتين لا يتدخل خلالها الرواد في نوع الموسيقى التي ينتقيها «الدي ــــ جي»، ففي المرابع الليلية الكبيرة، يصبح الساهر رقماً، لا تربطه بالمكان ومن يمثله أية علاقة تفاعلية إنسانية.
بين الطرفين، هناك تواصل يعترضه «باونسر» حليق الرأس، قد يكون يضع قرطاً ليتماثل أكثر مع أقرانه في الأفلام الهوليوودية، تجول عيناه بين الحضور بتوجّس، ويضم كفيه لتبدو عضلاته المفتولة أكثر انتفاخاً. يبدو الباونسر ضئيلاً، رغم انتفاخ عضلاته، أمام تمثال بوذا الهائل الذي يتوسط، بمهابته، مربع «البوذا بار» الليلي.
يتفتّت تمثّله بصورة «الماتشو» الذكورية أمام جلالة وسكون التمثال الضخم الذي يمثّل مع محيطه مفارقة قيمية هائلة.
بوذا الغارق في تأمّله الغيبي مستحضراً إلى تمثاله أعرق أدبيات الشرق الأقصى وما تستتبعه من تصالح الإنسان مع ذاته ومع محيطه، غريب عن المكان ورواده. وبينما تهزّ موسيقى التكنو والنيوويف الصاخبة جوانب الصالة الشاسعة، تتحرّك الأجساد بإيقاع مفتعل مدروس، بينما تدور الحدقات في العيون بتوتر مراقب لا يهمه التفاعل مع الموسيقى والتفلت من الرقابة الشخصية في لحظات الاحتفاء بقدر ما يهمه الشكل الذي يبدو عليه وصورته في عيون الآخرين.
حتى بعض الألحان الشرقية المستعادة، تتعرّض لمحاولة «الدي جاي» البائسة في تطعيمها بالإيقاع الغربي لتفضي عمليته «الإبداعية» إلى لحن ممسوخ مخرّب بدل أن تثريه.


الجميزة في قلب الحمرا