كبر ابن الزعيم وكبرت طموحاته، وإن صغر حجمه السياسي. عاش في الغربة ولمس موت إقطاع عائلته السياسي، لكن الأمير مقرن شاء غير ذلك. أحمد الأسعد يخوض انتخابات الجنوب بدعم مالي سعودي باعترافه هو في جريدة «السياسة»، ولمّح إلى ذلك في حديثه مع الصحافي جورج صليبي. قال إن هناك تقاطع مصالح بينه وبين «المجتمع الدولي» والسعودية!
أسعد أبو خليل*
كامل الأسعد ولد زعيماً. كان في عصر يأتي أبوه أحمد الأسعد بكل نوّاب الجنوب. كانوا يقولون زهواً إن العصا تنجح على قائمة أحمد الأسعد. كانت عائلات الجنوب تعرّف نفسها بأنها «أسعديّة». وأحمد الأسعد كان غير ابنه أو حفيده. أحمد الأسعد كان زعيماً تقليديّاً (بمعنى الزعامة الذي درَسه الأكاديمي السويسري، أرنولد هوتنغر) لكنه كان يضيف لمسات شخصيّة إلى زعامته. أهل الجنوب كانوا يروون حكايات عن عفويّته وبساطته، مثل أن يوقف سيّارة الكاديلاك السوداء في نصف الشارع في بيروت ليدعو حمّالاً جنوبيّاً لمحه عابراً. هل كانت أفعاله العفويّة حقيقيّة أم أن الناس اختلقوها ليميّزوا بينه وبين ابنه؟ لكن ولادة ابن الزعيم كانت الضربة القاضية على الزعامة الأسعدية. الجنوب خرج عن بكرة أبيه فرحاً بولادة ابن الزعيم. وهناك من يقول إن أم كامل (وهي كانت ظاهرة بحدّ ذاتها ساهمت فيها حنان الشيخ في تلك المقالة المُبخِّرة في صحيفة «النهار» إبان الحرب) هي التي جعلت من كامل ذلك النزِق الذي قضى بنَزَقه على زعامة سادت في جبل عامل لقرون. وأم كامل عندما قطنت في جنوب لبنان حكمته آمرة ناهية: تستدعي نواباً ووزراء ومخاتير ورؤساء بلديّات لتأمرهم من وراء حجاب. من كان مشكوكاً في ولائه الأسعدي يُنبذ، ومن هادن خصماً لكامل يُعاقب بشدّة. حتى طائرة العدو الإسرائيلي «إم.كا» كُنيت بـ«أم كامل» لفظاعتها. وأراد أبو كامل وأم كامل أن يفرح كل الجنوب بفرحة أم الصبي وأبيه. وهناك العبارة السائرة وهي تُعزى لأحمد الأسعد: أنه قال يوماً إن الجنوب لا يحتاج لمدارس لأن كامل يتعلّم. وليس مهمّاً ان الأسعديّين ـــــ عندما كان هناك ما يُسمّى بـ«الأسعديّين» ـــــ نفوا العبارة، وإن كانت تُعبّر عن الحالة النفسية لأهل الجنوب وعن انطباعهم عن الزعامة الوائليّة.
كبر كامل الأسعد ببطء شديد. وبيروت كانت جذّابة جدّاً في حينه. الشاب الأسعدي درس في جامعة القدّيس يوسف في زمن نال فيه أبناء الزعماء الشهادات من دون حضور الصفوف. وأصبح كامل الأسعد بيكاً ومحامياً وهو في سن العشرين. لكن زملاءه في دراسة الحقوق الذين (واللواتي) لاحظوا أنه نادراً ما حضر صفوفه، تنبهّوا للرجل: لم يكن مرتاحاً كغيره من الزعماء في زعامة طائفته. كامل الأسعد وُلد زعيماً لطائفة احتقرها ونبذها وتمنّى زعامة غيرها. حتى في حياته الاجتماعيّة كان يفخر بمعاشرة غير الشيعة (وغير المسلمين كما يروي عارفوه الخلّص من أيام زعامته البائدة). الشيعة كانوا للسخرة، فقط. لم يكن الزعيم الشيعي يومها ليبذل غالياً أو رخيصاً ليحافظ على الزعامة: الدولة كانت تُقتطع بين الزعماء، كما هي اليوم. كان زمن «الزعامة مشلّشي، ببلادنا، ومعربشي، ع كتافنا، بعدا الزعامة الآمرا، باسم الدني والدين» كما قال أسعد سابا الذي كان ينتظر طانيوس شاهين فأتاه فارس سعيد وأكرم شهيب ومصطفى علّوش ومفتي صور المطرود.
ورث كامل الزعامة علي حين غرّة. وهناك رواية عن تلقّيه نبأ وفاة أحمد الأسعد وهو إلى مائدة الطعام والشراب، وكيف أنه طلب أن ينهي طعامه وشرابه قبل أن يلتفت إلى أمر العائلة الطارئ. لا نعرف مدى صحة الرواية لكنها، كغيرها، ترد في جملة ما يرد عن هذا الزعيم. وكامل الأسعد أصبح منافساً لزعيم شيعي آخر في رئاسة مجلس النواب اللبناني: صهره صبري حمادة الذي كان قريباً من ناخبيه يجلس معهم القرفصاء كما شاهدتُه طفلاً. وزعماء لبنان لذيذون عندما يتصاهرون: مثل آل المرّ وآل لحّود وغيرهما كثيرون. فؤاد شهاب هادن الأسعد وإن ناصر حمادة الذي كان قريباً من الجهاز الشهابي وأقرب في طبعه من ناسك صربا. وبعدما لمس الأسعد الانحياز الشهابي لحمادة اختار «الوسطيّة» التي ضمّت صائب سلام وسليمان فرنجيّة. لكن الجنوب اللبناني كان يثور، كما أن موسى الصدر أطلّ على الساحة.
ومن الطريف أن ابن ابن الزعيم ـــــ أي الذي يحظى اليوم بأموال التقاطع مع السعوديّة ومع «المجتمع الدولي» ـــــ يشيد بموسى الصدر وبتراثه. نسي ابن الزعيم أن والده حارب موسى الصدر في كل موقع وفي كلّ ناحية. لم يكن كامل الأسعد يريد أن يسمح حتى بإنشاء المجلس الشيعي الأعلى، لكن موسى الصدر كان ماهراً في السياسة وعرف كيف يستغل الخلاف المُستحكم بين كامل الأسعد وصهره الذي تبنّى الفكرة. ولا نستطيع أن نعزو الفضل الكبير في القضاء على الإقطاع الشيعي إلى حركة أمل أو موسى الصدر. صحيح أن الصدر لعب بمهارة من أجل تقويض البنيان السياسي الأسعدي، لكنه لم يكن في منأى عن التحالف مع أطراف آخرين في الإقطاع الشيعي إذا تناسب ذلك مع برنامجه السياسي. لكن حركة موسى الصدر كشفت بفعاليّة عجز الزعامة الأسعديّة عن توفير الحدّ الأدنى من الحماية لأهل الجنوب بوجه العدوان الإسرائيلي (الذي يستعدّ فريق 14 آذار للتصدّي له بعربات «هامفي» وطائرتيْن وكاسات الشاي المُحلّى بالحليب، بالإضافة إلى بعض المُقبّلات اللبنانيّة التي كانت صولانج تعدّها لأرييل شارون، من فطائر وغيرها). أما الفضل الأكبر في القضاء على الإقطاع الشيعي فيعود إلى تنظيمات الثورة الفلسطينيّة وأحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة (وما سبقهما).
إن أحزاب اليسار والقوميّة العربيّة، مثل حركة القوميّين العرب، هي التي شكّلت طليعة الحركة المناهضة للإقطاع والرجعيّة في أرض جنوب لبنان وبعلبك. وبينما كان جناح حزب البعث الموالي لسوريا مهادناً للإقطاع نتيجة التحالف الوثيق الذي ربط حتى عام 1982 بين كامل الأسعد والنظام السوري، فقد كان الجناح الموالي للعراق، بالإضافة إلى كل أحزاب الشيوعيّة واليسار والمقاومة الفلسطينيّة في الجنوب، ينخر في عضد الحركة السياسيّة للإقطاع الشيعي. نقيب الصحافة رياض طه كان شجاعاً في صراعه ضد الإقطاع في منطقة بعلبك ـــــ الهرمل منذ الخمسينيات كما كان غيره في جنوب لبنان (مثل محمد الزيات من حركة القوميّين العرب) يتنافس لجذب الجمهور الشيعي في أرض كانت تغلي كالمرجل آنذاك، وللدفاع عن حق الفلاحين المعذبّين في إقطاعات عائليّة. اذكر حتى اندلاع الحرب الأهليّة أنك كنت تزور قرية جنوبيّة وتجد شبابها وشاباتها متوزعين في تشكيلة غنيّة من التنظيمات اللبنانيّة والفلسطينيّة اليساريّة والقوميّة العربيّة. الأسعديّة كانت تحافظ على ولاء المُسنّين من المُنتفعين، ومجلس الجنوب تحوّل بسرعة إلى «مجلس الجيوب»، كما سمّاه أهل الجنوب الظرفاء. أنشد موسى شعيب (الذي اغتالته القوات السورية في لبنان) ضد الأسعدية يومها: «يا قصوراً عشش الإثم على أسوارها جيلاً فجيلا، مجدك الزائف شيدناه والجوع طويلا، كم زرعنا في المداميك قتيلا؟») شعر الأسعد بما كان يجري حوله (وخصوصاً عندما نمي إليه أن عدداً لا بأس به من أبناء نوابه وبناتهم فضلاً عن أولاد كبار موظّفي مجلس النوّاب أصبحوا شيّوعيّين أو ناشطين في جبهة الرفض) واستعان كامل بالنظام السوري لينشئ حزباً «ديموقراطياً» و«اشتراكياً»، بالإضافة إلى ميليشيا مسلّحة. لكن الإقطاع كان يحتضر. الانتخابات الفرعيّة في النبطيّة عام 1974 أصابت منه مقتلاً. أما الحرب، فشكّت في صدر الإقطاع رماحاً لتثخنه.
الغضب الجنوبي الدفين تفجّر بمجرّد أن اندلعت الحرب الأهليّة. سارع فريق من الثوار الجنوبيّين إلى قصر الطيبة واحتلّوه (كما سارع شيوعيّون من حزب العمل العربي الاشتراكي لتأميم إقطاع آل الخليل الذي لم يسترجع هؤلاء إلا بمرافقة جنود إسرائيل عام 1982). هناك من روى للأسعد أن بعضهم نبش قبر أحمد الأسعد ولعب لعبة كرة القدم بجمجمته. من يدري ما حصل. والأسعد نعم في عهد فرنجيّة ليس فقط برئاسة المجلس وبغياب منافسة صبري حمادة، بل بدعم العهد القوي وتدخل أجهزة السلطة لمصلحته في الانتخابات. ومن وقف كحجر عثرة أمام البيك، تعرّض لمضايقات أو اعتداء. حتى حسين الحسيني تعرّض للضرب على يد أسعدي متحمّس، كما أن المذيع المهذب جان خوري تعرّض لاعتداء بعدما قطع عطل فنّي حديثاً مع البيك. سكن الأسعد في منطقة غرب بيروت حتى ربيع 1976، عندما جاءه وفد من جبهة الرفض برئاسة عصام العرب وطلب منه أن يؤيّد الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة ضد النظام السوري. أمر الأسعد الحاشية بحزم الحقائب على الفور وغادر إلى منطقة بلّونة في شرق بيروت، ووثّق تحالفه مع النظام في سوريا. خرج ولم يعد. كما أن علاقاته مع القوات اللبنانيّة قويت، وساهم مستشاره شارل خوري في المحافظة على صلة وصل مع الاحتلال الإسرائيلي وجيش لحد. ولم ينقطع الخيط أو الحبل الوثيق بين الأسعد والنظام السوري حتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان. في الأيام الأولى، نشرت له جريدة «النهار» تصريحاً يفتي فيه بأن لا انتخابات في ظل الاحتلال الإسرائيلي. سارع العرّاب السياسي والمالي لترشيح بشير الجميّل، ميشال المرّ «الوسطي»، إلى طلب لقاء مع كامل الأسعد. تغيّر كل شيء بعد اللقاء الوجيز وتحمّس الأسعد لترشيح بشير وأفتى عن قناعة ـــــ طبعاً ـــــ بجواز الانتخابات في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي مع حبة مسك من عنده. وعاد الأسعد وتحالف مع أمين الجميّل وطبّل لاتفاق 17 أيار، لكنه قرأ الكتابة على الجدران وغادر إلى أوروبا على عجل بعد الإسقاط المدوّي للاتفاق.
رأيت أحمد الأسعد ـــــ ابن آخر زعيم إقطاعي شيعي ـــــ في الثمانينيات قبل مجيئي إلى الولايات المتحدة. كان ذلك إثر خلاف مستحكم بين ابن زعيم وابن زعيم ـــــ الأب والابن. كامل الأسعد كان يشكو من تعثّر أحمد الدراسي. أحمد أتى للمشورة وقال إن والده أفسد عليه تحصيله العلمي. قال لي إنه في الأيام «الحلوة» في سني الحرب كان يتصل به ويقول إن زعامته مضمونة وإن دراسة الحقوق واجبة عليه. أما في الأيام المرّة، فكان يتصل ليقول إن زعامة بيت الأسعد ولّت إلى غير رجعة وإن عليه دراسة الهندسة، أو شهادة يستطيع أن يعتاش منها. احتار الابن وجال في أوروبا وعمل في مجالات لا علاقة لها بالسياسة أو بالهندسة أو بالحقوق. واستفحل الخلاف بين الأب والابن، لكن الأخير قرّر هكذا أن الزعامة لم تمت، وأنه سيحييها وهي رميم بمساعدة أموال «تقاطع المصالح» مع الحكم السعودي. واستفاق صاحبكم على زعامته الضائعة فراح يبحث عبثاً عنها في كل زاوية، وخصوصاً في الحازميّة. يطلع بأسماء وعناوين: بدأ بتيّار الكفاءات: لم يوضّح أي كفاءات يعني وكيف أنه هو يمثّل الكفاءة دون غيره. ابن الزعيم ظن أن أهل الجنوب يتعطّشون للعودة إلى عصر الإقطاع الشيعي البائد، ناسياً أن أفضل إنجاز لوالده هو في تقديم نموذج منفّر للزعامة سارع في القضاء عليها دون أن يدري. ويحاول ابن الزعيم أن يقلّد والده حتى في العنجهيّة وفي النبرة الصوتيّة، ناسياً أن والده كان نائباً في العشرين ووزيراً في الثلاثين، ليس بجهوده وكفاءته طبعاً بل بنعمة وراثة الزعامة التي كانت تسمح للعصا بالفوز بمقعد نيابي على قائمة أحمد الأسعد الجدّ.
ويختفي ابن الزعيم عن السمع بين انتخابات وأخرى، وإن كان إعلام القوات اللبنانيّة (وخصوصاً في «إل.بي.سي») يحاول بظرف لافت ان يُنصّب زعماء بدلاء من الشيعة المرفوضين (من جعجع والحريري)، فيأتي مثلاً بصورة منتظمة بمحمد عبد الحميد بيضون أو بأحمد الأسعد أو عضو من تجمّعه وكأن ذلك كفيل بصعودهم سياسيّاً. وفي الانتخابات لا نسمع عن أحمد الأسعد على الإطلاق. ومراجعة الموسوعة الانتخابيّة التي أعدّها كمال فغالي لانتخابات عام 2000 تكفي لرصد احتضار زعامة الأسعد مع تبيان السمات الطائفيّة لعدد الأصوات الأسعديّة القليلة. كان يمكن أن يكون أحمد الأسعد صوتاً يُسمع همساً مرّة كلّ أربع سنوات، لكن زلزال اغتيال الحريري غيّر الكثير من المعادلات وخلق مشكلة التمثيل الشيعي في ثورة (حرّاس) الأرز.
عانى فريق الحريري من مشكلة شيعيّة منذ انطلاق الهمروجة الطائفيّة الجنونيّة. تخبط الفريق وتعثّر وهو يحاول أن يرتّب دكّاناً أو أكثر للزعم بوجود تأييد شيعي لـ14 آذار حتى يكتمل ادعاء التمثيل الوطني الشامل. ارتبك فريق آل الحريري عندما وجد نفسه أمام مأزق سياسي عميق: يريد أن يحكم باسم كل لبنان لكنه يعاني ضعف التمثيل في بلد الطوائف بين المسيحيّين والشيعة. غير أنه وجد ضالته في سمير جعجع وأنطوان لحد ليحكم باسم كل المسيحيّين مستعيناً في ذلك ببطريرك الموارنة (الذي لم يُفرج بعد عن الوثائق المتعلّقة بالاتفاق بين البطريركيّة المارونيّة والحركة الصهيونيّة عام 1946). أما مشكلة تمثيل الشيعة والحكم باسمهم، فمسألة أصعب. حاولت العائلة أن تعتمد على عدد متنقّل ومتغيّر من الشخصيّات: من نصير الأسعد إلى محمد حسن الأمين إلى الجماهيري غازي يوسف إلى محمد الحاج حسن إلى باسم السبع الذي يماثل جمال عبد الناصر في السحر الجماهيري، إلى محمد الحسيني الذي يقود مقاومة الأمير مقرن بن عبد العزيز، لكن كل هؤلاء تفرّقوا أيدي سبأ. نصير الأسعد يواظب على الكتابة في نشرة العائلة، ومحمد حسن الأمين هجرهم (رسميّاً على الأقل) عندما شعر بأنه مُطالب بإدانة المقاومة، وغازي يوسف زار محمد حسين فضل الله باكياً شاكياً من توريط آل الحريري له في منح جون بولتون درع (حرّاس) الأرز، وباسم السبع يعلن عن إنشاء تنظيمات همايونيّة ثم يختفي في طائرة سعد الدين، ومحمد الحاج حسن وجد ضالته في قيادة مكتب رفعت الأسد، الداعي الديموقراطي وإن ارتكب من الجرائم في سوريا ولبنان ما ارتكب، ومحمد الحسيني لا يزال يقاوم حزب الله في المواقع السعوديّة على الإنترنت، لكن أحمد الأسعد ثبت في الاستخدام (وفي الطاعة).
يبدو أن تقاطعاً أميركيّاً ـــــ سعوديّاً وقع عليه، لسوء البدائل. وجورج صليبي أخطأ عندما تحدّث عن دعوة أميركيّة من الكونغرس للأسعد. لا، إن الدعوة جاءته من منظمة صهيونيّة تدين بالولاء لنتنياهو وتعترض على ما تراه اعتدالاً من شارون. ومضيفه لم يكن إلا الليكودي اللبناني، وليد فارس، في منظمة «الدفاع عن الديموقراطيّة»، وهي من أكثر المنظّمات يمينيّة وصهيونيّة في أميركا. وقد أصدر كامل الأسعد بياناً اعترض فيه على استضافة الصهيونيّة لولده مع أن الأسعد التقى مع إسرائيليّين في حقبة بشير الجميل. والأمير مقرن ينفّذ مشيئة واشنطن، كما فعل الأمير تركي في حقبة الحرب الباردة. والأسعد في الحديث يظنّ أن له سجلاً طويلاً عريضاً في العمل السياسي والوطني، ويتحدّث عن نفسه بصيغة الغائب. ثمة ضرورة لتذكير الرجل بموت الإقطاع الشيعي. يقول مثلاً أن ليس هناك من يأمر «أحمد الأسعد». والأسعد يحاول أن يخفي غياب الكفاءة أو الموهبة أو مصدر «تقاطع المصالح» بالأموال عبر الإكثار من عبارة «حضاري» و«تكنولوجي»، حتى أنه أصر على أنه مؤسّس تيار الانتماء لا رئيسه لأن كلمة «مُؤسِّس» أكثر حضاريّة وفق قوله. والقول بـ«الصراع الحضاري والتكنولوجي» مع إسرائيل لا يخفي هدف «مقاومة المقاومة» كما سمّاها وضّاح شرارة (الذي أحسن فك طلاسمه الرفيق رائد شرف أخيراً).
ومقاومة المقاومة هي بالضبط ما يثير شهيّة الأمير مقرن (وإسرائيل وأميركا طبعاً). يجهد الأسعد للظهور مظهر العارف والعليم فينصح (في حديثه مع جورج صليبي) للبنان بأن يقتدي بالنمو الاقتصادي السريع في... اليابان. لم يقاطعه صليبي ليعلمه أن الاقتصاد الياباني يعاني كوارث منذ عقود وأن ليس هناك من يقتدي بالتجربة اليابانيّة، إلا ابن الزعيم.
وابن الزعيم سيخوض غمار الانتخابات وإن كانت شخصيّته (التي تتناسب مع زمن بائد كان يستطيع فيه كامل الأسعد أن يفوز بالانتخابات رغم عنجهيّته وتعجرفه) منعت وليد جنبلاط من قبوله حليفاً. ومعظم قادة 14 آذار يلتقونه سرّاً خشية إغضاب من يجب إرضاؤه. والانتخابات ستكون امتحاناً آخر لتجارب سابقة في سياسة أميركا الخارجية نحو الدول النامية، حيث يطلب شخص طموح وطامع المعونة الأميركيّة مقابل وعود بتنفيذ أوامر أميركيّة. محمد دحلان كان يعد بالسيطرة على كل الضفة والقطاع بالنيابة عن إسرائيل وأميركا، فكان ما كان وهرب جنوده نحو إسرائيل بالسراويل الداخليّة، مذعورين.
السعي الحريري ـــــ السعودي (والأميركي) لإعادة تشكيل فصيل شيعي موالٍ للوهابيّة لن يتوقّف، قبل الانتخابات وبعدها. ويفوت آل سعود وآل الحريري مفارقة المعضلة السياسيّة: أن سياساتهما في بث نار الفتنة المذهبيّة منعت إمكان استقطاب رأي عام شيعي، وخصوصاً أن الإعلام السعودي والحريري تطرّف في معاداة الشيعة: تكفي خطب سحر الخطيب ومحمد علي الجوزو. والاعتماد على أحمد الأسعد لغزو الرأي العام الشيعي هو مثل اعتماد إسرائيل في السابق على سعد حدّاد إلى التودّد للشعب اللبناني. من قال إن ليس للحرب اللبنانية حسنات؟ ألم تقضِ إلى الأبد على الإقطاع الشيعي، رغم إصرار حركة أمل المزعج على الاحتفاظ بالرمق الأخير لبعض عائلات الإقطاع؟ وحظوظ محاولة آل سعود في إحيائها أقل من حظوظ إحياء نظام المتصرّفيّة.
لهذا، لن يستحق الأمير مقرن شهادة دكتوراه في الفقه الشيعي من فؤاد السنيورة الذي أسبغ أخيراً على الأمير نايف (ذي اليد الطولى في قطع الرؤوس وفي كهربة الأعضاء التناسليّة) شهادة دكتوراه في العلوم السياسية. زِد السنيورة علماً سياسيّاً وثقافة.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)