راجانا حميةقصاصة ورق مطلية باللون الأخضر، رُسمت عليها 7 خطوط سوداء، تبدو كأنها قضبان سجن. لم تكن القصاصة لتوحي بشيء لولا ما كتبه الطفل هادي شحادة (4 سنوات) أسفل الرسم: «مصادرة أرضي 1976». هذا الرسم المفترض أن يُعلّق اليوم في معرض قاعة المركز العربي في مخيّم برج البراجنة لمناسبة يوم الأرض، هو «كلّ فلسطين» في ذاكرة الطفل الذي وُلد بعيداً عما يقولون له إنه وطنه. مريم وحسن ومحمد وعلي وهادي رسموا الرسم ذاته دون أن يكونوا قط في الصف ذاته.
قبل أيام من الذكرى، كان الخمسة في صفوفهم يردّدون ما تقوله المدرّسة عن يوم الأرض. كان الدرس «بروفة» أولى للعرض الذي سيقومون به غداً في المخيّم. انتهت البروفة. سألت المعلّمة «شو بيعني يوم الأرض؟». رفعت مريم يدها وبدأت كلامها مسرعة، كأنّها تتلو استظهاراً سمعته للتوّ وتخاف نسيانه: «في 30 آذار سنة 1976 هجم اليهود بدباباتهم المجنزرة على أرضنا. قتلوا 6 منّا وصادروا أرضنا وبنوا عليها المستوطنات». لم تكد الصغيرة تنهي كلامها حتّى علا التصفيق. أعادت المعلّمة طرح السؤال مرّة أخرى لعلّها تحصل على «إضافات». رفع الصغار أيديهم، ولكن أحداً لم يزد على عبارة مريم.
هذا كلّ ما يعرفونه. ليس مطلوباً منهم أكثر، فهم أطفال وُلدوا في كنف وطن آخر، وما بقي من «الوطن الأساس» مجرّد صورة رسموها وفق ما يسمعونه من «بابا» و«ماما» و«تيتا» و«جدّو»، حتى بات هذا الوطن صورة «افتراضيّة» في ذاكرتهم الصغيرة التي لن تتّسع لتفاصيل فلسطين التي يعرفها أجدادهم من الجيل الأول بعد النكبة.
هذا الجيل، الرابع، لا يشبه في شيء الجيل الأوّل الذي يهدد رحيله غياب الذاكرة الحقيقيّة عن فلسطين. فمثلاً علي (5 سنوات) ابن «ترشيحا الافتراضيّة»، لا يعرف عنها سوى أنّها «شجر وورود وأرض كبيرة وحشيش»، ليست هي نفسها ترشيحا التي يعرفها العجوز التسعيني سامي فاعور الذي عاش ذلّ النكبة وما قبلها. يحفظ فاعور كلّ شيء عن البلدة التي وُلد فيها عام 1912. يرسم الصورة الحقيقيّة حتى بعد 61 عاماً. يصف بلدته كما كانت: «أكبر بلدة موجودة في قضاء عكّا، غنيّة، وفيها مدرسة ثانوية، بعدين في عنا كمان مسيحيّة بين روم و«كاتلوك» وفي عنا جامعين، جامع بنته أم ابراهيم باشا الجزار وجامع بنوا الحمولي جامع سليمان، وعلى الطريق العام هناك بريد وقائمقام وسوق بيفتح نهار الثلاثاء».
لكن على الأقل يحتفظ صغار فلسطين باسم فلسطين وباسم بلدتهم هناك. هكذا يعرّف محمد عبد الرازق عن نفسه «اسمي محمد هشام عبد الرازق من سعسع، وسعسع لتيتا وجدّو وإحنا حنرجع عليها». أما حسن الأشوح فيقول إنّه «حسن الأشوح الكابري، وليكي أبوي قلّي إنه إحنا كرما». إلا أنّ هذه الذاكرة على صغرها، لم تكن لتتكوّن لو أنّ الأهل لم يسعوا لذلك «خوفاً من أن تصبح فلسطين مجرّد ذكرى فقط»، كما يشير محمّد برقجي من الكويكات. يحرص محمّد على تلقين أطفاله ما يعرفه عن فلسطين «زي ما رواها أبوي وجدّي». يحتفظ بدفتر صغير دوّن عليه كل ما سمعه عن الكويكات، وقد أوصى أطفاله بالحفاظ عليه وإضافة أي شيء يتعلّق ببلدهم. أما فؤاد ضاهر فهو حريص على اللهجة الفلسطينيّة، مبرراً: «لأنّ الحنجرة هي التراث الوحيد الذي لم تسرقه إسرائيل».
محاولة الأهل إبقاء فلسطين حاضرة في ذاكرة أطفالهم، لا تقلّ عما تبذله الروضات في المخيّمات. ففي مدرسة القسام، أطلقت الإدارة أسماء القرى الفلسطينية على الصفوف، وتعمد كلّ يوم إلى تعليمهم أغنية عن فلسطين. بالأمس كان دور الجليل في الأغنية «طير طير وعلّي فوق جبال الجليل ودي سلامي لأطفال الحجارة وقلن انو ما نسينا الطيارة». وتحاول الروضات تلقين الأطفال قبل أن يبلغوا السادسة ويصبحوا في عهدة مدارس الأونروا حيث تغيب فلسطين تماماً عن المناهج! ففي تلك المدارس، لا كتاب تاريخ خاصاً بهؤلاء، فهم يتعلمون المنهاج اللبناني حيث تمرّ خارطة فلسطين كخارطة السودان أو مصر. هذه المحاولات، ترافقها محاولة مؤسسات أهلية كالاتّحاد العام للمرأة الفلسطينية ومركز الجنى وجمعيّة «ذاكرة». لم تكن «ذاكرة» في بدايتها تستهدف هؤلاء الأطفال، ولكن مع الوقت «تبين أن ذاكرة هؤلاء هي الجزء الأبرز من ذاكرة». هذا ما يقوله رئيس الجمعيّة رمزي حيدر، ويضيف: «لديهم كمّ هائل من الصور في رؤوسهم عن فلسطين، كانوا يحكون صوراً عن الزيتون والليمون.. وفلسطين لن تموت ولن يصيبها النسيان».