تميزهم ثياب العمل، والسُّمرة التي تصيبهم بسبب العيش في الشمس. بعد تقلّص الاعتداءات التي استهدفتهم عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يشكو معظم العمال السوريين اليوم، من التعرض لهم بالسلب. هنا بعض قصصهم
أحمد محسن
هل في بيع الكعك أذيّة؟ لماذا يكرهوننا؟ يسأل محمود مستغرباً، وقد اتّشح وجهه بالخوف الواضح. يقف في زاويته المفضلة قرب البوابة الغربية لشارع مونو الشهير، ونادراً ما يتكلم إلا مع زبائنه. يختبئ من الضوء، بمحاذاة زقاق عتيق، ويختلس النظر إلى المارة مبتسماً. يتمنى لو يسمح له الوقت بالصلاة داخل مسجد محمد الأمين، أو يتوقف عن الشعور بالغربة المؤلمة. يروي الشاب العشريني كيف أنه ذات مرة أثناء وقوفه بجانب دراجته (المزينة بالكعك) كالمعتاد، اقترب منه شاب أصلع، مفتول العضلات، وصفعه على رقبته، طالباً منه المغادرة. «بلا سبب، هكذا، مزاج» قال له الشاب بلؤم. حاول محمود تفادي الموقف فسرق خطوات قليلة إلى الأمام، وتخلى عن زاويته المفضلة، للشاب الذي استولى على كعكة من دون أن يدفع ثمنها. لم يقتنع الأخير بالعرض الذي قدمه له محمود، فطرده من المكان نهائياً، وسط سيل من الشتائم المهينة. ومنذ ذلك الحين، ابتعد محمود عن نقطته المحببة، لشهرين، خوفاً من «الرجل الأصلع المخيف».
يصعب تعداد الحالات المماثلة، على كثرتها في التقارير الأمنية. وإذا قورنت حالة محمود بالحالات الأخرى، يصح القول عندها إن الأخير سعيد الحظ، لكون الأمر اقتصر على «السحسوح». في الحالات الأخرى، يتعدى الأمر ذلك بكثير، فربما وصل إلى الضرب، والسلب. حتى القصّر لم يسلموا من الاعتداءات المتنقلة. جُرح محمد (16 عاماً) في يده، بعدما حاصره شخصان، وطعنه أحدهما في يسراه. غنموا منه سبعين ألف ليرة، وهاتفه الخلوي الصغير. كان ذلك في منطقة الأونيسكو. وفي حالة مشابهة، كان ميسرة يسير في أمان الله على الطريق البحرية في منطقة برج حمود، قبل أن يفاجئه أحد السالبين. شهر الأخير بوجهه سكيناً، وأخذ ماله. حدث ذلك في وضح النهار.
ما لا شك فيه أن اللبنانيين يواجهون حالات مماثلة، إلا أن ثمة شعوراً بالغبن ينتاب بعض العمال السوريين، إثر انسحاب الجيش السوري، وتمدد الاعتداءات التي طالتهم في الآونة السابقة، بسبب الظروف السياسية آنذاك، وتراجع الاحتقان السياسي لحساب عمليات السلب الاعتيادي. إلا أن تكرار سلب السوريين تحديداً، يؤجج في داخلهم الشعور بوجود «عنصرية دفينة» تجاههم. علاء هو أحد هؤلاء (يرفض الإدلاء باسمه كاملاً). هو واحد من الرجال الذين يتظللون بجسر «السلطان إبراهيم»، ويطاردون الرزق بين الأمكنة، من مطلع الشمس حتى نومها في البحر القريب. سُلب علاء مبلغ 200 ألف ليرة، أثناء عودته إلى منزله في الجناح بعد يوم شاق. المشكلة أنه يرجّح حصول ذلك لكونه سوري الجنسية. يوافق على أن السرقة تطال الجميع، بيد أن الحزن يتسرب إلى وجهه فجأة ويقول: «أنا غريب»، طالباً أن نفهمه. ويبقى شعور علاء بالغربة قاسياً أمام مشاعر آخرين، يتساوون مع اللبنانيين في كونهم ضحايا عاديين، كأحد عمال محطة محروقات تقع بالقرب من قصر العدل في بعبدا. فقد هذا العامل غلة نهاره، عندما توقفت إحدى السيارات وأطل من إحدى نوافذها مسدس حربي. أعطاهم المال خوفاً على حياته. ما لا يمكن تقبله، أو استيعابه، من الناحية الإنسانية، هو عمليات السطو المسلح، إذا جاز التعبير، التي تصل إلى بيوت العمال وغرفهم المتواضعة، وهذه الحالات التي ترتفع معدلاتها في التقارير الأمنية أخيراً، بصورة مخيفة. يجري احتجاز العمال وترهيبهم أحياناً، في ساعات الفجر الأولى، ويهدَّدون بالسلاح. وشهر السلاح ليس حكراً على الجدران المغلقة فقط، ففي إحدى المرات، أوقف مسلحون مجهولون إحدى حافلات النقل المتوجهة إلى سوريا، على أوتوستراد المنية ــ طرابلس. لثّموا وجوههم بالأقمشة السوداء، واقتحموا الحافلة. أطلق أحدهم النار في الهواء ترهيباً، ثم جرت الأمور طبيعياً، أي سلبوا الركاب مالهم.
وتبقى هذه الحالات في السياق المقبول منطقياً، لكون استتباب الأمن لا يعني بالضرورة عدم حصول أي خروق، فالسلب يحصل في كل بلدان العالم. لكن إذا جاز غض النظر عن ذلك، يصعب فهم تكرار عمليات السلب، التي يرتدي فيها الفاعلون زي القوى الأمنية الرسمي، ولا سيما أن مكتب «الانضباط» في قوى الأمن الداخلي انطلق في عمله. وسجلت تقارير أمنية رسمية حصول عملية من هذا النوع، نفّذها مجهولان، أحدهما يقود سيارة، وبجانبه شخص يلبس بزة قوى الأمن الداخلي. احتالا على عاملين سوريين، وطلبا محفظتيهما بحجة التدقيق بها، قبل أن يأخذا ما فيهما من غلة تعب شهري، قدرته التقارير بمبلغ مليون ونصف مليون ليرة. وفي 7 شباط المنصرم، وقعت حادثتان متلاحقتان من هذا النوع. أثناء مرور فيصل في منطقة المصيطبة، شارع الماما، اعترضته سيارة من نوع فيات. استجاب الأخير على الفور، بما أن مُوقِفه «رجل أمن» كما تدل بزته المرتبة. طلب منه «رجل الأمن» الافتراضي أوراقه الثبوتية، وأخذ المحفظة إلى غير رجعة. بعدها بساعتين، في مكان بعيد عن المصيطبة (بولونيا ــ المتين)، صادف عامل آخر الحالة نفسها. انتحل أحدهم صفة أمنية، على أحد طرقات بولونيا الخضراء، وسلب العامل مبلغ 400 دولار أميركي، وضعها الى جانبه في سيارة زرقاء رباعية الدفع، بين كلاب للصيد، بحسب ما ذكرت تقارير أمنية.

انتحال صفة «أمنية»

وفي الحديث عن الزي الخارجي لقوى الأمن، تجدر الإشارة إلى انتحال البعض الصفة الأمنية بثياب مدنية. أما بالنسبة إلى المواطنين، فلا يتوقف الأمر على ما تعلنه وسائل الإعلام من عمليات مشابهة، أو تذكره تقارير أمنية، فلرجل الأمن صورة نمطية في أذهانهم، تخضع لظروف اجتماعية معينة. وفي هذا الإطار، تساءل أحد العمال السوريين، أثناء حديثه عن الظاهرة، عن بطاقات قوى الأمن، ولماذا لا يبرزونها خلال عملهم. «ثمة مشهد تقليدي في الأفلام الأميركية، يشهر فيه رجل الشرطة بطاقته في وجه المواطن إثباتاً لهويته»، قال أحمد، معلناً أنه لا يدري أين يختفي هذا المشهد في لبنان، قبل أن يضيف ممازحاً: «ألا يوجد مع رجال الشرطة اللبنانيين بطاقات تعرف عنهم وعن عملهم؟». تساؤلات محقة، بالنظر إلى كثرة حالات السلب. «إذا طلبنا منهم بطاقتهم فقد يضربوننا» يقول بحذر، ويردف ضاحكاً: «تعرف كيف تجري الأمور في العالم العربي». ثم يستدير ليتابع مشقة البناء. أحمد لم يتعرض للسلب، ولم يواجهه «رجل أمن» افتراضي حتى الآن، لكن زميله أكرم تعرض لموقف مشابه. كان يقود سيارة شيفروليه، لوحتها سورية، وأوقفه شخصان في جيب أسود. قالا إنهما من استخبارات الجيش، وتالياً، سلباه أمواله. مسعود (22 عاماً) وماهر (26 عاماً) واجها الأمر نفسه في حارة صيدا، بعدما هاجمهم ثلاثة «رجال تحرٍّ»، أو ادعوا أنهم كذلك. ثمة من يستغل «هيبة» الأمن ليرعب العمال، ويسلبهم عرق الأيام الطويلة.


استضعاف العمّال

نجحت القوى الأمنية خلال الشهر السابق في توقيف مشتبه فيه بالسلب عبر انتحال صفة أمنية. وتبين في التحقيقات أن المتهم كان يستعمل بذلة أخيه (المجند في قوى الأمن الداخلي) للتمويه. وأكد مسؤول أمني رفيع لـ«الأخبار» أن معظم الاعتداءات التي تستهدف العمال السوريين هي اعتداءات جنائية، خالية من الطابع السياسي. ولفت المسؤول الأمني، إلى وجود واقع مؤسف، تبلور بعد عام 2005، حيث تعرض العمال لموجة من الاعتداءات في الفترة المذكورة، مرحباً بانتهاء تلك الظاهرة «التي لا تمت إلى واقع اللبنانين بصلة». وانطلق المسؤول من هذه الصورة، ليؤكد استغلال بعض المجرمين لهذه الثغرة في الواقع الاجتماعي المحلي، فيستضعفون العمال السوريين، من دون أن ينفي أن بعض المناطق تعاني من علاقة غير ودية مع السوريين. وفي سياق مختلف، أكد المسؤول الأمني أن أفراد قوى الأمن يبرزون بطاقتهم في المهمات الرسمية، تجنباً لانتحال صفتهم، لكن القانون اللبناني لا ينص على إبرازها في الحالات العادية كما تجري الأمور في البلدان الغربية.