وائل عبد الفتاحأنا الدولة. كلمة لويس الرابع عشر تتّخذ معانيها العربية المعاصرة. رؤساء وملوك الجناح المصري ينسحبون تباعاً من القمّة. الدولة موجودة عبر ممثّل رسمي، لكنّ غياب الرئيس هو المثير لشهيّة الأخبار والتحليلات. هل يحضر مبارك؟ سؤال يستغرق أيّاماً. يليه الخبر الصاعقة: مبارك لن يحضر... وتتداعى الأخبار: ملك الأردن يفكّر في عدم الحضور. هل يحضر؟ هذه هي الوجبة من قمم لا تخرج بأكثر من متابعة سير الرؤساء.
النميمة على الرؤساء والملوك والأمراء هي السياسة المتاحة. والبرنامج الوحيد الذي تملكه القمّة كاملاً هو مناقشة ورقة المصالحة، لا المصالحة نفسها. القمّة كأنّها طقس بلا مشروع متجدّد. يدور حول فراغ وجاذبية. يكافح الحكام ليستمرّوا في المجال، بينما يتّسع الفراغ ويضيق حسب أجندات من أطراف أقوى.
مبارك كان لطيفاً وودوداً في مكالمة هاتفية مع شيمون بيريز رئيس إسرائيل. أكد له أنّ «مصر تفعل أفضل ما في وسعها بهدف التقدّم في مباحثات التهدئة وتحرير الجندي الإسرائيلي»، على حدّ تعبيرات مترجمة من القناة العاشرة الإسرائيلية. المكالمة كانت لمناسبة مرور ثلاثين سنة على معاهدة كامب ديفيد. وحرص فيها مبارك على توصيل رسالة «مستمرّون في السلام، لأنّ من يطلب الحرب لا يعرف حقيقتها». رسالة سياسية في لحظة صعبة يتوقع فيها المراقب بداية «حرب باردة» بين القاهرة وتل أبيب بعد وصول الثنائي «نتنياهو وليبرمان» بما يمثّله التحالف من درجة تصلب ليس أمام نظام مبارك إلا التصلب في مواجهته. والنظام مرهق بأزمات داخليّة ومقبل على ماراثون ترتيب أوضاع ما بعد مبارك، وكان يحتاج إلى درجة التصلّب في موضوعات أخرى.
على العكس تماماً، أدار مبارك صراعاته العربية بطريقة متصلّبة، وهو الكبير الذي يعرف أن غيابه سيُحرج القمة وأصحابها، أي إنه لعب مع كل طرف بأسلوبه، وأضاف نقاطاً إلى رصيده في البقاء داخل الجاذبية.
ليس المهم ما يفعله الرؤساء .المهم هو عدم الخروج من المجال. وهذا ما يمكن أن تراه في مواقع كثيرة. الدول غائبة، بينما حكامها حاضرون. السودان تعرض لغارات غامضة لم يُعلَن عنها وقت حدوثها. ضربت الطائرات أماكن وقوافل على أراضي دولة السودان، ولم يحتجّ نظام البشير ولم ينفعل ويثُر من أجل السيادة. سيادة الدولة. على العكس، أخفى الخبر أكثر من ستّين يوماً كاملاً. ولم يحتجّ هو ولا مصر التي اخترقت الطائرات حدودها.
السكوت هنا. والثورة على تعرّض الرئيس للخطر. سيادة الرئيس أهم من سيادة الدولة. والخوف من المحاكمة على جرائم دارفور يبرَّر وطنياً ويصنع بطولة للرئيس من عدم، بينما انتهاك التراب الوطني مصيره الإخفاء أو الإعلان الغامض.
قمة الدوحة ستدعم البشير لا السودان. لماذا؟ من أجل أي «سيادة»؟ ووفق أية قواعد وقيم سياسية؟ ولماذا لا تقرر القمة ثورة على أعرافها أو فراغها المحدد من خارجها، وتدعم مثلاً قواعد العدالة الدولية وتتحرك لمطاردة مجرمي الحرب الإسرائيليين في غزة والأميركيين في العراق؟ تنتظر الجماهير العربية أن يصدر الحكام من القمة قرار تحرير القدس. ومن طول الانتظار فقدت الجماهير الأمل، واكتفت بمتابعة «مشاحنات الحكام» واستعراضاتهم المفجرة لكوميديا سوداء.
وكما تحوّلت القمّة إلى مجرّد طقس، تحوّل انتظارها إلى ما يشبه نصب إبليس ترجمُه الجماهير بأحجار وتصبّ عليه اللعنات. تحنّ الجماهير إلى القمم الساخنة عندما كانت إسرائيل تسعى إلى التسرّب وتسجيل الوقائع كما حدث في الدار البيضاء (1964). لكنّها سخونة لم تُعِد القدس ولا حرّرتها. لكنّها كانت تطفئ نار الغضب. وهذا ما يفسّر أنّ أجندة القمم تبحث بأسلوب غير واعٍ عن وقائع صالحة للدهشة لتملأ الفراغ العاطفي، بينما الفراغ السياسي تشغله حركة عصبية متوترة يبحث فيها الغرماء العرب في مجلداتهم القديمة. تتمسّك السعودية ومصر ومن معهما بمبادرة السلام. وتحاول الحصول على اعتماد من إسرائيل بالتعامل معها، بينما تغازل أطراف أخرى إيران. كأنّ الوكالة لم تعد اليوم أميركيّة فقط. تفرّعت إلى وكالات أخرى للأقوياء في المنطقة. عرب إسرائيل وعرب إيران. انتساب إلى أطراف متصارعة على امتلاك المنطقة. هي قمّة الضحايا في لحظات رعبهم من الطيران خارج الجاذبية. وهذا سر الطابع الشخصي. حكام طوال العمر. يتخاصمون ويتحالفون حسب «مزاج قبلي» صرف. يفتقدون الدبلوماسية والإرادة والمشروع، ويكتفون بتوزيع المغانم والوعود.
وهذا يجعل البشير نجم المراهنات والإثارة في قمة الضحايا: «البطل الذي تحدّى أوكامبو في القاهرة وطرابلس، الآن في الدوحة...».
«سيادة» الرئيس تأكدت في القمة. بينما لن يتذكر أحد «سيادة» السودان. هو وحده، وبصورة واضحة، يجسد فكرة «الرئيس والضحية». الرئيس المتحدّي. والضحية المطاردة. تغيب هنا فكرة الشعب الذي تعرّض للموت والتشرّد. لا تتبنّاها القمّة، ولا تنظر إليها. لن يهتمّ الحكام إلا بدعم زميلهم وبطريقة وحيدة.
هل تدفع القمّة البشير باتّجاه تقديم حلّ مبتكر للخروج من الأزمة؟ أم تكون الدوحة محطّة من محطّات رحلة البشير إلى مصير غامض ومجهول؟ القمّة ستتبنّى غالباً الحلّ الأسهل، ولن تسمع كلام حسن الترابي الشريك السابق في الحكم حينما قال إنّ «البشير ليس السودان».