ريمون هنود إن معظم علماء النفس في العالم يُقرون ويعترفون بأنّ أغلب الأمراض النفسية التي تفتك بالإنسان مردها إلى روتين الحياة اليومية الجالب لشتى أنواع الضغوط النفسية. ومعظم علماء النفس ينصحون مرضاهم بتغيير نمط حياتهم للخروج من مشاكلهم النفسية، كإيجاد هوايات أو السفر للسياحة والاستجمام أو ممارسة الرياضة بجميع أنواعها.
ومما لا شك فيه أن الإنسان اللبناني غارق في بحر هذا الروتين، وهو أمر ينعكس سلباً على اهتماماته الوطنية وحسّه الوطني. فالإنسان اللبناني، منذ نعومة أظفاره متيَّمٌ بإحاطة التقاليد التزمتيّة الرجعية بهالة من الوقار والدراية. شيء جميل أن يولد الإنسان، فالوجود أفضل من عدمه، شيء جميل أن يتعلم ويعمل ويتزوج ويؤسس عائلة ويؤدي واجباته العائلية، لكن المعضلة تكمن في أن يمتنع ذلك الإنسان اللبناني عن الاهتمام بالقضايا
الوطنية.
صحيح أن معظم اللبنانيين لا يحركون ساكناً إزاء الحالة الطائفية المزمنة العفنة التي تفتك بالنسيج الاجتماعي اللبناني من رأسه إلى أخمص قدميه، والسكوت على ما يبدو من علامات الرضى، لكن الخطيئة الكبرى تتمثّل بوجود شريحة عاقلة متنوّرة تمثّل خميرة صالحة وإكسيراً قوياً مُعدّاً للتغيير، وهي نخبة عملاقة صالحة لإحداث الانتفاضة المرجوّة، وصالحة لأن تكون القدوة للأغلبية الضالة المغرر بها. لكن المعضلة أيضاً أنها بدورها تلوذ بالصمت ولا تقدم على أدنى مجهود ينتشل البلاد من أتون الالتهابات المذهبية والأدران الفئوية التي تغرز مخالبها في البنية الاجتماعية اللبنانية، وخاصة في عمودها الفقري المتمثل بالأدمغة والطاقات والكفاءات اللبنانية التي يعوّل عليها الوطن بالدرجة الأولى، فضلاً عن نخر فيروساتها لنفوس نشئنا الجديد منذ سن رضاعته مروراً بيفاعه ومراهقته، وصولاً إلى مرحلة بلوغه سن
الرشد.
جميل أن نولد وأن نلعب ونلهو مع أترابنا. جميل أن ننهل من ينابيع العلم والثقافة، جميل أن نتزوج وننجب. لكن المشكلة تكمن في الروتين، فالروتين يمسي خطراً جسيماً إذا تربص بنا، وأن نرى أخطبوط المذهبية يسرح ويمرح معربداً في شوارع الوطن وزواريبه وأزقته، ونحن غير مبالين ولا يهمنا سوى السجود لملذاتنا وتعبئة بطوننا بأشهى أنواع الأطعمة البلدية والمستوردة «وعندما تكبر البطون تضيع العقول»، وزيارة الجد والجدة والخال والخالة والعم والعمة في نهاية عطلة كل أسبوع ونحن نرتدي الثياب الرسمية في أبهى حللها «على آخر أبهة وعلى سنجة عشرة» كما يقول إخواننا (الشعب المصري). فهذا الشيء بمفرده لم يعد جائزاً إلا إذا اقترن أيضاً باهتماماتنا بشؤوننا الوطنية، تلك الشؤون التي تطالبنا بإلحاح بالاهتمام بها ورفع شأنها وبتغذيتها بمبادئ فلسفة النشوء والارتقاء، تلك الفلسفة التي أحبها قلب رائد عظيم من رواد عصر النهضة ألا وهو العملاق ابن كفرشيما شبلي الشميِّل.
أما استمرارنا على هذا المنوال أي البقاء جاثمين على قمة اللامبالاة والتلكؤ و«الاستلشاء» على قاعدة «مين ما أخذ أمي بيصير عمي، أو من بعد حماري ما ينبت حشيش، أو أنا أو لا أحد، ومن بعدي الطوفان»، أو كما يقول الفنان الكبير فيلمون وهبه: «إن كبرِت عمرِت صغرت، حايد عن ظهري بسيطة»، سوف يسقط الوطن في مهاوي الاضطراب والضياع، والتاريخ سيلعنه ويقذفه باتجاه مزابله. المطلوب القضاء على الروتين المتخلّف، المطلوب عشق الوطن على قاعدة عربية علمانية ديموقراطية.
لم يعد يُعقل بعد اليوم أن نأكل من خيرات أرضنا أشهى أنواع الخضار والحبوب والفاكهة وأن لا نصون شرفها وعرضها من هبوب رياح الانعتاق
والجهل.
لم يعد يعقل بعد اليوم أن ننهل من مياه ينابيعنا وشلالاتنا العذبة، وبعد ارتوائنا نرمي أحجار التخلف في نقاوتها وصفائها وطهارتها، لم يعد يعقل استمرار عربدة النرجسية في نفوسنا والبقاء مكتوفي الأيدي عندما يتعرض بلد شقيق لأي أذى أو مكروه، لم يعد يعقل أن يستمر داء المناطقية وعصبة الطبقية، يعيث فساداً بفكرنا. فمن غير المسموح عندما تعزف سمفونية الموت ألحانها في منطقة أن يرقص أبناء المنطقة المجاورة في الوطن الواحد على ألحان «طقطوقة» صادرة من نشاز «امرأة
مغناج».
وما حدث في حق نبي اسمه منصور الرحباني من عدم إعلان يوم حداد وطني يوم عانق تراب وطنه المقدس، خير دليل على أن حفاة الفكر والعهّار «العزرائيليون» الذين يضيّقون الخناق على الأحرار والشرفاء طعنوا الإنسانية والأخلاق في
مهدهما.