strong>بيسان طيكمن يشاهد فيلماً سينمائياً، هكذا يمشي جواد الأسدي. في الطريق إلى المسرح، تلتقط عيناه كالمتفرّج حركة الناس والتفاصيل في الشوارع وعند الأرصفة. لكن حياته تبدأ عند أبواب المسرح. هنا يشعر باللذة: «البروفة هي العيد الحقيقي ليومياتي»، وفي كلامه عن عيده، يستطرد الأسدي «هنا منطقة الالتئام في العالم، إعادة كتابة الأجساد، الضوء، النص... هنا منطقة العيد والحياة والطاقة الكبرى». البروفة إذاً هي أشبه بتمرينات على الحياة نفسها. أو أنّ الحياة بروفات عروض لا نشاهدها، بروفات متتالية، متنوعة، خصّص لها الأسدي عام 2003 كتابه «جماليات البروفة» (المؤسسة العربية للنشر).
«البروفة» عرفها الأسدي بدايةً على مدينته دروب كربلاء حيث ولد وعاش طفولته ومراهقته. ذاكرته تزخر بمشاهد من منطقة العباسية تحديداً، حيث صخب العزاءات الحسينية، تمرّ الجوقات التي تتكوّن من عشرات بل مئات الأشخاص، يدبكون على الأرض، يطلقون الصرخات «كأنّهم يتلون قصيدة تخلط بين حب الحسين والسخط على النظام، لذا كانت السلطة الحاكمة ترتعب من عزاء العباسية» فتجنّد الشرطة للسيطرة على الوضع. إذ كان بعض المشاركين في العزاء ينطلقون منه إلى السجون لتحرير السجناء في لحظة تمرد هي تتويج للعزاء.
في كربلاء أيضاً، كان الأب يأخذ أولاده الستة ليلة الخميس ليزوروا ضريح الحسين وضريح العباس. كان جواد صاحب صوت قوي، يقرأ اللوائح على جدران الضريح أو المزار، يرتّل بسملات رمضانية ويقف وراءه المئات، يتقدم نحو والده، يحضنه ويبكي.
مشاهد أخرى من أيام الطفولة ترسّخت في ذهن الأسدي لتُغني ميله إلى المسرح. يقول «والدتي وخالي كانا يصنعان حياة البيت من منظور يساري شيوعي. هي لم تكن تجيد القراءة، لكنها كانت تعبّر عن الانتماء للإنسان، توزع خبز التنور الذي تخبزه وخالي كان يكدس الكتب: غوركي، تولستوي وغيرهما». وللجدة صفية مكانة في المشاهد، يتذكّرها الأسدي عند التنور قرب نخلة كبيرة في كربلاء، تجلس عند الفجر وتنطلق رحلة العمل.
ستتكدس المشاهد في حياة جواد الأسدي ــــ في ذاكرته ووعيه ــــ لكن المصادفة وحدها جعلته يمتهن العمل في المسرح: «أتيت إليه كالعبث الغريزي والمنفلت». نجح بمعدل منخفض في البكالوريا العلميّة، فنصحه أحدهم بالتقدم إلى أكاديمية الفنون الجميلة، دخل على اللجنة الفاحصة وقدّم دورين، يذكُر أنّ أحدهما كان من قصيدة لمحمود درويش والثاني كان مقطعاً من «أنطونيو» لشكسبير.
تعلّم الأسدي على أيدي أساتذة من كبار المسرحيّين العراقيين كبدري حسون فريد وجعفر السعدي. المعهد سيكون سبيله إلى المدينة، إلى بغداد السبعينيات، «وصلت إليها وكان عالقاً في بدني الكثير من التدين... تديّن طفولي بشكله العذب».
في بغداد، انقلبت الحياة. «صرت أشعر بأن هناك امرأة، وأنّ لها جمالها، صارت لي صديقات. في كربلاء، كنا نرى المرأة عن بعد كأنها كيان مستحيل». وهناك تعرّف، مع رفاقه الطلبة، إلى أعمال أدباء عالميين كتشيخوف ووليام فاغنر، عرف «ما معنى الرواية، وما معنى هاملت، لقد تحولنا إلى فدائيين لفكرة المسرح، لقد دخلنا إلى المساحة المدنية للحياة، كنا نعيش تدريبات على الحرية، عندها بدأ يخرج منّي مخزون كربلاء ومشاهدها، وعرفت ما معنى الدراما والروح في عاشوراء». لكنّ كل شيء ليس جميلاً في حياة جواد تلك الفترة: «خالي أمسك به بعثيون، وأُعدم أخي عبد الله الأسدي وجاؤوا به جثة إلينا».
بغداد، في النهاية، لن تكون سوى بوابة الأسدي إلى العالم. خرج منها إلى صوفيا، وهناك، في العاصمة البلغارية، عرف تجربة تجديد العقل المسرحي: «المسرحيون الأوروبيون كانوا يأتون إلى صوفيا، كنت أحضر عروضهم وتدريباتهم، وأتدرّب مع عدد منهم». انفتحت أبواب أوروبا إذاً، سافر الأسدي إلى موسكو وبراغ وهنغاريا وباريس وروما، وغيرها...
لكن أوروبا لم ترو عطشه. عاش فيها إحساساً بالعزلة أو القطيعة، أو ما يسمّيه هو «التصحّر». كان يشعر دائماً بحاجة عضويّة، كيانيّة إلى المدينة العربية. هكذا جاء إلى دمشق في الثمانينيات حيث كانت انطلاقته الثانية، وبدأ بتقديم العروض التي ستعرّف به، وتفرضه على الساحة العربيّة: «العائلة توت»، «خيوط من فضّة»، وكرّت السبحة... عمل في البداية مع «المسرح الوطني الفلسطيني»، ودرَّس في المعهد العالي للفنون المسرحية. يقول إنّ للشام فضلاً عظيماً عليه، هي بالنسبة إليه «الينبوع الأكثر نضوجاً في تقويم وتكوين الروح المسرحية الحقيقية التي أُعرف بها الآن، مع الثقافة والفنانين في دمشق تدربت وعشت ودرّست».
من الشام إلى بيروت، جاء مع «الاغتصاب» (عن نص لسعد الله ونوس)، «لقد علقت في هذه المدينة، ففيها سقف الحرية عال... بغض النظر إن كان هذا السقف معرّضاً غالباً للانخفاض، لكنّه يبقى الأعلى عربياً». في هذه المرحلة خاض الأسدي تجارب عدّة حول العالم، فقدّم «الآنسة جولي» في السويد بلد ستريندبرغ، و«نساء في الحرب» في إيطاليا...
في التسعينيات، بقي الأسدي يتردّد على بيروت التي قدّم فيها بعض أعماله المرجعيّة مثل «الخادمتان» (عن جينيه). وبعد فشل مشروع العودة إلى بغداد، وتأسيس مسرحه فيها، اختار الاستقرار هنا عام 2005، فكانت بيروت بديلاً من بغداد. هنا افتتح في الحمرا، صيف 2006، بيته ووطنه وجمهوريّته الفاضلة: «مسرح بابل» الذي بات من المعالم الثقافية في العاصمة اللبنانية.
هذا الرجل طبعته المدن. يبدو لنا فجأة فنّاناً متعباً. صاحب الشعر الأبيض الطويل المرسل، يشعر المتحدث إليه بأنّ عروضه حفرت فيه كثيراً. يقول إنّ «تقاسيم على العنبر» كانت محطة حقيقية في تأسيس نظريته القائمة على معادلة خاصة بين الممثل والنص وجماليات العرض. وفي «ريبرتواره» الخاص يمكن أن يقع عشّاق المسرح على عدد كبير من الأعمال التي حفرت في الذاكرة العربية المسرحية، من «المغنية الصلعاء» إلى «رأس المملوك جابر»... وهو يحمي المسرح من الموت بالكتابة عنه، يقول «عندما تسدل الستارة ينتهي العرض... يموت، لا مجال لاستعادته حياً، لا حظ له في أن يستمرّ.، وقد أصدر نصوص بعض مسرحياته في كتب، كما أصدر كتابين عن مسرحه هما «جمالية البروفة» و«المسرح جنتي»: «الكتابة عن يوميات المسرح كمشاكسة الزمن، ليبقى المسرح حياً عبر الكتابة عن البروفة».
بيروت «خيمته الأخيرة» إذاً؟ قبل عام قدّم المخرج العراقي في «بابل» مسرحيّة مستوحاة من لوركا: «نساء السكسوفون». وأعاد أخيراً تقديم مسرحية «حمام بغدادي» التي يروي فيها قصة العراق تحت الاحتلال... قصص التصارع الطائفي واستغلال الإنسان لأخيه، والقمع والقهر السياسي... من خلال شقيقين يعملان سائقي سيارات عمومية. هل من داعٍ لأن نتذكّر بأن والد الأسدي وأشقاءه في المهنة نفسها؟ وبأنّ شقيقه قتل عام 2008 «بوجود الاحتلال الأميركي في العراق»؟ مشاريعه لا تنتهي: في الموسيقى والثقافة البديلة التي يعمل على الانفتاح عليها. وفي المسرح أساساً وأوّلاً. يفكّر في تظاهرة تكريميّة ضخمة لجان جينيه. ويعد بموسم مسرحي حافل في مسرحه البيروتي: «انتظروا «جيفارا يعود افتحوا الأبواب» نص مسرحي كتبته يقوم على الموسيقى والدراما والغناء... والتأليف الموسيقي للفنان الشاب زياد سحاب».


5 تواريخ

1952
الولادة في كربلاء (العراق)

1976
دخل إلى أكاديمية الفنون الجميلة

1985
«خيوط من فضّة»، بعد عامين على «العائلة توت»

2003
عاد إلى بغداد ليفتتح مسرحه، لكنّ الاحتلال منعه من ذلك. وفي العام التالي حاز جائزة «الأمير كلاوس» الهولندية، تقديراً لأعماله «وللدور الناشط الذي لعبه في الصراع من أجل حرية الفكر والتعبير الثقافي في العراق وخارجه»

2009
إعادة تقديم «حمام بغدادي» في بيروت. التحضير لتظاهرة ضخمة حول جان جينيه. وقريباً عمله الجديد: «جيفارا يعود افتحوا الأبواب» بالتعاون مع زياد سحاب