فرنسا ـــ خضر سلامة أقول لك وداعاً، ثم أختبئ بين ذراعيك وأقبّل باقة حبق زرعتها عشتار على قارعة الطريق بين شفتيك وقدميك. أدّعي أني نسيت كبريائي في المنزل وأغمس ما بقي من عتمتي في زيت قنديلك، لتشعلي شيئاً من هذا العالم المستبد الأسود. أسميك حزيران وأطلقك وعداً بالصيف الكاتم للأسرار. أخبرك بأني أسافر بعد ساعة إلى نواح لم يكتشفها الوعي بعد. تركضين إلى باحة المطار، تودّعين حقيبة سفر وأتعلق أنا بضفائر شعرك وأرجوكِ أن تعيديني معك إلى السرير، فأنا بحاجة لقليل من النوم، وكثير من الوطن ولو على حجم سرير.
تنخر أبجدية اللغة في ذاكرتي. يوقظني الألم ويخدرني الأمل. أنا أفكر إذاً، أنا ممنوع من الصرف في هذه البلاد. أنا عربي إذاً أنا ممنوع من البقاء، محكوم بالرحيل المؤبد في حقول الألغام المضادة لأبسط مواد العدالة الاجتماعية. محكوم بالعبور الدائم بين أيدي رجال الأمن الذين يعبثون برجولتك وبكرامتك، بحثاً عن ضربة تقضي على عورة الفرح في هذا الزمن الخبيث كعيني طائفة مسعورة.
رفيقتي، ودّعيني عند الرحيل أو عند الوصول، وانتظريني في باريس مرة وفي بيروت مرة وفي روما وفي دمشق وفي بغداد. انتظريني كلما دعانا الصوت اللئيم إلى ركوب طائرة جديدة، تعيدنا إلى حيث بدأنا، من حيث وصلنا قبل أشهر أو قبل سنين. ضعي الغرباء المقسمين على اثنين وعشرين قفصاً من الظلم والناطقين بالعربية المكسورة بالصدأ في معلبات منتهية الصلاحية. واجعليهم طعاماً للأنظمة، عسى يختنق الجالسون على آبار النفط العربي، أو الأعجمي، ببقايا عظامنا المحطمة في مطاحن التنمية والخطابات الموسمية... في موسم الكذب. غرباء غرباء غرباء جداً يا صديقة. غرباء على قارعة السين وغرباء على كتف العاصي. مجروحون بالحنين هنا ومجروحون بالاختناق هناك، فكيف تهرب أيها القلب المعلق على نخلة من ألوان الفيزا الجميلة على جواز سفرك الذي يعدك بحكومة أقل نفاقاً. وكيف تهرب أيها القلب المعلق على جدار الفصل بين اليورو والدولار من حكمة جدتك ورجائها أن تعود إليها لتقرأ الفاتحة، قبل أن يصبح قبرها معرضاً للسياح.
غرباء غرباء غرباء يا وجهي المحبوس في عينيها، لا تحاول الهرب، كفّ عن قتال هذا الشغف الذي يجرك من أذنيك إلى الزاوية. قلبك يحتل الهامش. انتظر قطار الإصلاح والتغيير، أو ناقلة التنمية والمقاومة، أو قوافل المستقبل وقوات الوطن، أو لوائح الكفاءات والغد. انتظر أي شيء اليوم، اليوم بالذات، وتعلق به، إنّه موسم الكذب يا صديقي، واليوم عيده. أتعرفين، الغربة مؤتمر قومي عاجل لبني وطني، الوطن الأكبر، يحضره أبو ذر وغيفارا ومظفر ولوركا والمتنبي وشفتاك وكل شعراء المنافي المطلوبين بمذكرات جلب إلى زنازين التسوية مع آلة القمع اليومية في الجامعة، في المعمل، في الحقل وفي القبر. مطلوبون أيها الأطفال البارعون في تركيب أسطوانات الموسيقى الشعرية الوطنية، بتهمة الحلم، مطلوبون بحكم الحيرة واللااستقرار والخوف من الموت جوعاً إلى الخبز والحرية، أو الموت تخمة بالآمال المخملية...
تتموج في خديك فضلات الفكرة، تتعبني اللغة العربية الحاضرة في السادسة صباحاً دون موعد، وأنت نائمة، وفي خديك فكرة. الأرض أعمق امتداداً في القلب من أقدام الرحيل واليوم عيد الكذب والموسم موسمه. استيقظي قليلاً، فلنصدق كل شيء حولنا، ولنقنع أطفالنا، حين يأتون، أنّ في جبين المسافات متسعاً لرسم وطن. «دعيني فقط، في أول نيسان، والعالم مشغول بالكذب، أبحر مثل سمكة عمياء في كفيك، علني أهتدي لمرفأ يقنعني بالبقاء...».