روان عز الدينما زال صوتها الدافئ يتردد في أذني! فقد كان، بلكنتها القروية، يصدر لحناً لذيذاً وسط أصوات الباعة الشاذة ويصبح سبباً لجذب المارة على طول الكورنيش المحاذي للبحر. اعتادت الجلوس على كرسي خشبي صغير، ملاصق لعربة الذرة التي ورثتها عن والدها. لم يبقَ لها إلا ذكرى كاوية من أب طالما عشقت، وشقاء لا يليق بنعومة فتاة في سنها وفي جمالها الوحشي.
في الخامسة والعشرين من عمرها، شعرها شلال يتغذى من ظلمة ليل دامس. عيناها العسليتان باب من أبواب التأمّل، ولحن من ألحان الموسيقى الصامتة، تائهتان في وجهٍ حاولت قتل فتنته تجاعيد تكاد لا تظهر حتى على وجه عجوز في الثمانين.
عجبت لمنظر جلوسها بين الباعة عند مروري أمام عرباتهم. أية مأساة رمت بها إليهم؟
أردتُ التكلم إليها، فطلبت منها عرنوس ذرة.
انتشلته بيديها الناعمتين من الماء الحارق، ولكن جفناً لها لم يرف، وكأنها تستخف بسخونته، وقبالتها حيث جلستُ، لم أكترث لطعم ما آكل، بل كنت أراقب ابتسامتها الساخرة من المارة المشيرين إليها بأصابع كأنها تخترق جسدها النحيل. ابتسامة امتزجت بطعم التحرّر من قيودهم.