وسيم وهبة*يمرّ نظام الرقابة على دستورية القوانين في لبنان هذه الأيام، بوضع حرج للغاية يمكن أن يهدّد وجوده. والمقصود هنا بنظام الرقابة على دستورية القوانين، هو مجمل الآليات المعمول بها التي تجيز مراقبة دستورية القوانين أو تمنع ذلك. دخلت الرقابة على دستورية القوانين حيز التنفيذ في النظام اللبناني رسمياً يوم أقر قانون إنشاء المجلس الدستوري بتاريخ 14 تموز 1993. وقد اعتُبر المجلس الدستوري الحجر الأساس لبناء دولة القانون التي تصدعت خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
وقد عصفت بالمجلس الدستوري العديد من الأزمات والمشاكل، بدءاً من إعلان خمسة أعضاء في 8 آب 2005، أنهم سيتوقفون عن أداء مهماتهم في المجلس، مروراً برفض خمسة أعضاء بتاريخ ٦/7/٢٠٠6، دعوة الرئيس أمين نصار للاجتماع. وقد كان المقصود يومها من دعوة نصّار، إعادة لمّ شمل المجلس وتفعيل عمله إذا ما أراد النواب الطعن بالقانون الجديد. ومرّت الأيام، وتوالت الأزمات السياسية في لبنان وتصرّفت الطبقة السياسية على أساس أن المجلس الدستوري غير موجود، وتناست أن التطبيق الفعلي الوحيد لاتفاق الطائف، كان إنشاء المجلس الدستوري وإدخال الرقابة على دستورية القوانين في النظام اللبناني. وتنفس اللبنانيون الصعداء مع انتخاب مجلس النواب لخمسة أعضاء جدد في المجلس الدستوري، لكن سرعان ما عادت مشاكل هذا المجلس إلى الواجهة مع الاختلاف على تعيين الأعضاء الباقين في مجلس الوزراء.
قبل إقرار التعديلات الدستورية في عام 1990، لم يكن في النظام اللبناني أية هيئة تمارس الرقابة على دستورية القوانين، وبعدها أُنشئ المجلس الدستوري بموجب المادة 19 من الدستور التي نصت على أنه «ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية». وبالتالي، فقد أصبح هناك من يراقب القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، وهذه الرقابة مقررة في مادة دستورية. وبالتالي فإن إلغاء هذه الرقابة أو القفز فوقها يعدّ مخالفة صارخة للدستور ولما هو منصوص عليه في وثيقة الوفاق الوطني.
فماذا حصل طوال الفترة الممتدة بين 6/7/2006 وحتى اليوم؟
لقد صدر في الجريدة الرسمية منذ ذلك التاريخ، ما يزيد عن 50 قانوناً، وانتُخب رئيس للجمهورية. ومعروف أن مهمة المجلس الدستوري مراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية، وبالتالي فقد صدرت هذه القوانين وانتخب الرئيس بغياب المجلس الدستوري.
فأين كانت المادة 31 من النظام الداخلي للمجلس الدستوري التي تنص على أن يقدم الطعن بدستورية قانون خلال 15 يوماً تلي تاريخ نشره في الجريدة الرسمية أو في إحدى وسائل النشر المعتمدة قانوناً؟ هل عمد أحد إلى تطبيقها؟ بالطبع لا، لأنه بحسب المادة نفسها، فإن الطعون تقدَّم إلى رئيس المجلس الدستوري بموجب استدعاء موقّع من المرجع المختص شخصياً، ولم يكن معترفاً وقذاك برئيس المجلس أمين نصار، فكيف يمكن تقديم الطعن لديه؟
وبعد انتخاب رئيس الجمهورية، لم يكن بالإمكان الطعن بصحة انتخابه نظراً للظروف التي كان يمرّ البلد في وقتها من جهة، ومن جهة ثانية بسبب غياب المرجع الذي يمكن أن يقدم أمامه الطعن خلال 24 ساعة تلي إعلان النتائج. إنّ إقرار مجلس النواب القوانين في ظل غياب جهة مخوّلة بنص دستوري لمراقبة دستورية القوانين التي يقرّها، هو مخالفة واضحة للمادة 19 من الدستور ولوثيقة الوفاق الوطني. وهذا سيرتب نتائج خطيرة، لأن سن القوانين بغياب المجلس الدستوري، سيجعلها بمنأى عن أية رقابة قضائية، لأنه لا يحق للمحاكم الدفع بعدم دستورية قانون ما، وذلك بحسب المادة 18 من قانون إنشاء المجلس الدستوري التي تنص على أنه لا يجوز لأي مرجع قضائي أن يقوم بهذه الرقابة مباشرة عن طريق الطعن أو بصورة غير مباشرة عن طريق الدفع بمخالفة الدستور أو مخالفة مبدأ تسلسل القواعد والنصوص، وبالتالي تكون الإدارات والمحاكم مجبرة على تطبيق قوانين ربما تكون مخالفة للدستور.
إنّ الاتفاق على مخالفة الدستور في وقت من الأوقات، ولأسباب قاهرة، لا يعني إهمال الطعن بهذه المخالفة، ولكن كما اتفق على المخالفة، يمكن الاتفاق على الخروج منها عبر فتح مهل الطعون مثلاً. مع الإشارة إلى أنه يمكن أن تكون جميع هذه القوانين التي نُشرت مطابقة للدستور، وانتخاب الرئيس لا تشوبه شائبة، لكن المشكلة هي في غياب المراقب وقت حصول التشريع أو الانتخاب.
إزاء هذا الوضع الذي وصل إليه نظام الرقابة على دستورية القوانين، لا بد من القيام بتعديلات جذرية تغير مفهوم الرقابة، وتحصنه في الوقت نفسه. ويمكن لهذا التعديل أن يكون باتجاهين: الأول اعتماد الرقابة الوقائية بدلاً من الرقابة اللاحقة في مراقبة دستورية بعض القوانين، والثاني إمكان مناقشة دستورية قانون ما أمام المحاكم العادية.
1ــــ تنطلق فكرة الرقابة الوقائية من التمييز بين القوانين العضوية والقوانين العادية. في الواقع لم يميز الدستور صراحة بين القوانين العضوية والقوانين العادية. لكن يمكن تعريف القوانين العضوية بأنها القوانين التي يشير الدستور إلى سنها صراحة. مثلاً، تنص المادة 8 من الدستور، على أنّ «الحرية الشخصية مصونة، وفي حمى القانون، ولا يمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف إلا وفقاً لأحكام القانون، ولا يمكن تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى القانون، وبالتالي فإنّ كل ما يتعلق بالحريات العامة، يجب أن يصدر بقانون يسمى قانوناً عضوياً. أما القوانين العادية، فهي القوانين الباقية التي لم ينص على سنها الدستور».
وتتجلى هذه الرقابة بوجوب عرض رئيس مجلس النواب القوانين العضوية، في اليوم التالي لإقرارها، وقبل إصدارها، على المجلس الدستوري لإعطاء رأيه الملزم بمدى مطابقة هذه القوانين للدستور. أما القوانين العادية، فيمكن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء وأربعة نواب، ورؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً، الطعن بها أمام المجلس الدستوري قبل إصدارها وخلال الـ15 يوم التي تلي إقرارها.
2ــــ إنّ إعطاء المحاكم حق النظر بدستورية قانون ما، يؤدي إلى مراقبة دستورية القوانين الصادرة قبل إنشاء المجلس الدستوري، أو تلك التي لم يطعن بها أمامه. وهذه الرقابة أُقرَّت في فرنسا بموجب التعديلات الدستورية في 23 تموز 2008، حيث أعطي الحق لمجلس شورى الدولة ولمحكمة التمييز، إحالة القوانين المنازع في دستوريتها أمام المحاكم العادية، إلى المجلس الدستوري للنظر في دستوريتها. وبالتالي، يجب اعتماد هذا التعديل في لبنان بحيث إنه إذا طرحت بمعرض نزاع دستورية القانون المطبق، يمكن للقاضي عفواً أو بناءً على طلب أحد أطراف النزاع أن يحيل هذا القانون إلى المجلس الدستوري للبت بدستوريته.
إنّ هذا التعديل بشقّيه، يلزم مجلس النواب بإحالة القوانين العضوية بعد إقرارها للنظر بدستوريتها، كما تترك المجال أمام الأفراد للطعن بطريقة غير مباشرة بالقوانين المخالفة التي لم يطعن بها أمام المجلس الدستوري.
* محامٍ وباحث في القانون