strong>ياسين تملالي*استهلكت كبرى وسائل الإعلام الغربية أحدث موضاتها. نسيت التيبت ما إن انفضّت ألعاب بكين الأولمبية، ونسيت كوسوفو ما إن أعلن استقلاله، ولم تعوّضهما بفلسطين في واجهة الأحداث، فحماس أوقفت قصفها «الوحشي» لسديروت، والتحقيق في جرائم إسرائيل في غزة أقل إثارة من أن يتصدر نشرات الأنباء. مات سلوبودان ميلوسفيتش وأعدم صدام حسين وأوغل أسامة بن لادن في مجاهل تورابورا. افتقدت «هتلرَ» يقضّ مضجعها فنصّبت عمر البشير «هتلر العالم» الجديد. وانبرى صحافيوها يشرحون «أزمة دارفور» لجمهورهم المشتت الذهن بين تراجيديات العالم المتخلف: «الأزمة إنسانية، وجذورها إثنية». وكان بودّهم أن يضيفوا: «ودينية»، لولا أن القتلة وضحاياهم كلهم مسلمون.
«الاقتصاد يا أبله»: جملة اختارها بيل كلينتون شعاراً لحملته الانتخابية في 1992، ويجب اليوم ترديدها لبعض من تخصصوا في الشؤون السودانية في التلفزيونات والجرائد الغربية. يفيضون في الحديث عن عنصرية حكام الخرطوم «العرب» واضطهادهم باقي «الإثنيات الأفريقية»، فيختزلون أسباب الأزمة في سبب واحد. يتناسون أن السودان تحوّل منذ قرابة عشر سنوات إلى بلد بترولي، ما يثير مطامع كل القوى العظمى دون استثناء. لا يفيدون جمهورهم بمعلومات في منتهى البساطة تؤكد أن الاحتياطي النفطي السوداني (5 بليون برميل في2007 حسب «أويل أند غاز جورنال») خامس احتياطي أفريقي وأنه يتجاوز الاحتياطي المصري (3،7 بلايين برميل). هذا عن الاحتياطي، أما الإنتاج السوداني من البترول الخام فلا يقل عن 463 ألف برميل يومياً (2007)، أي أنه ثلث إنتاج دولتين نفطيتين عريقتين كالجزائر وليبيا. ويبيّن تضاعفه في أربع سنوات (270 ألف برميل في 2003) أن احتمالات نموه قائمة، فالاضطراب السياسي وقلة الموارد المالية قلّلا من فرص التنقيب في مناطق شاسعة، منها ساحل البحر الأحمر بالقرب من حدود مصر وإقليم دارفور الذي لم يستكشف منه حتى الآن سوى جزئه الشرقي.
لم يعد السودان إذاً ذلك البلد الفقير الذي تتحدث عنه كبرى وسائل الإعلام الغربية بشفقة ورثاء. ناتجه المحلي الخام، بفضل ازدياد إنتاجه البترولي، نما بشكل قياسي في السنوات الأخيرة، فسجل 5،1 في المئة في 2003 و8 في المئة في 2006 و12،8 في المئة في 2008. وانعكاساً لهذا النمو، تضاعف دخل الفرد السوداني (النظري طبعاً) بين 2003 و 2008، فطفر من 1420 دولاراً سنوياً إلى 2500 دولار.
لكن من يستغل بترول السودان؟ شركات صينية أساساً. ولو كانت أميركية لكان عمر البشير أصدق أصدقاء الإدارة الأميركية بعد نوري المالكي. شركة صينية واحدة، هي «تشاينا ناشونال بتروليوم كوربورايشن»، تمتلك أربعين في المئة من أسهم «غريتر نايل بتروليوم أوبيرايتنغ كمباني» التي تستغل أكبر حقلي نفط سودانيين غرب النيل الأعلى، والشركة ذاتها شرعت سنة 2005 في إنتاج البترول في حقول أخرى غرب النيل. الإحصائيات الأميركية تؤكد أن النفط السوداني صيني الاستهلاك أيضا، فـ80 في المئة من صادراته موجهة إلى الصين، ما يمثل 6 في المئة من واردات هذا البلد البترولية. وهذه النسبة طبعاً مرشحة للارتفاع بالنظر إلى أهمية الاستثمارات الطاقوية الصينية في السودان (15 مليار دولار بين 1999 و 2006).
وليس تعاظم الحضور الاقتصادي الصيني في السودان سوى غيض من فيض، هو تغلغل الصين الاقتصادي في عموم أفريقيا بواسطة الاستثمارات الطاقوية ومنح بعض الدول قروضاً بشروط ميسرة مقارنة بشروط البنك الدولي. هذا ما يثير مخاوف الدول الغربية. لذا ليس من الخطأ القول إن حملتها العنيفة على عمر البشير هي حملة مقنعة على الصينيين، تستهدف إشعارهم بأن وجودهم في القارة السوداء غير مضمون، وأنها لن تتردد في إثارة حروب أهلية طاحنة لزحزحتهم عن مواقعهم فيها.
وبلغ الخوف الغربي من «الخطر الأصفر» درجة جمعت في المعسكر نفسه فرنسا وأميركا، بالرغم من أن باريس كانت أبرز مساندي عمر البشير، فيما دعمت واشنطن جون غارنغ أملاً أن يتوّج تمرده بانفصال الجنوب الغني. كانت مصالح الدولتين آنذاك متعارضة كل التعارض: فرنسا كانت تريد استرجاع آبار نفطية في الجنوب عُهد بها إلى شركة «توتال فينا إلف» ومنعتها الحرب الأهلية من استغلالها، وأميركا كانت ترغب في إهداء الآبار نفسها إلى شركاتها. أما اليوم، فالهدف الفرنسي الأميركي واحد: تجفيف موارد الصين البترولية بطردها من أفريقيا، أو على الأقل استغلال هشاشة انغراسها الأفريقي لابتزازها في مفاوضات مصيرية أخرى.
ولا بديل للأميركان والأوروبيين عن تغيير النظام لتهميش الصينيين في السودان أو طردهم منه، ولو تطلب الأمر تقسيم البلاد إلى دويلات. وهل أسهل من التذرع بمنع ارتكاب «جرائم إبادة» لرسم خريطة البلاد بما يتلاءم ومصالحهم؟ وبما أن أكبر حقول النفط المستغَلة في الجنوب، فإن الحملة الجارية حالياً على عمر البشير تنذر بحملة أشنع لدفع الجنوبيين إلى اختيار الانفصال في استفتاء 2012 عن الوضع النهائي لهذه المنطقة.
هذا هو السودان على ضوء بعض مصالح الدول العظمى: بلد ليس ما يجري فيه من مذابح أشنع مما اقترف في رواندا ورفضت إدارة كلينتون وصفه بـ«الإبادة»، لعدم توافر أحد الشروط «التدخل الإنساني»: قرب مسرح الجريمة من آبار النفط!
* صحافي جزائري