قاسم عز الدين*اللغة هادئة مخبرية كلغة خبراء المؤسسات الدولية في نشر ثقافة الخراب بتعابير مكافحة الفقر. والشعار هو «موعد العبور إلى الدولة» كشعار البنك الدولي والبيت الأبيض، «العبور إلى عالم الاستقرار والازدهار» قبل تدمير العراق وقبل الانهيار الاقتصادي الرأسمالي وبعده. ذلك هو برنامج 14 آذار في «البيال» المتضمن 14 «قضية»، واحدة لكل يوم آذاري، ولعل أكثرها رمزية هي قضية اليوم الثامن في «التزام متطلبات المحكمة الدولية» (بند 8) وهي متطلبات تبعية غير مسبوقة للقضاء الوطني في المحاكم المماثلة (كمبوديا مثلاً) لكن لا تمنع التبعية المطلقة «للمجتمع الدولي»، المنزّه عن الغرض والمصلحة على رأي 14 آذار، من توشيح الفقرة «بتعزيز استقلالية القضاء اللبناني وفعاليته» (بند 8).
ولا غرو أن إنشاء البرنامج الانتخابي يقتصر على الإنشاء اللغوي، على عادة تسويق «المشتقات المالية الفاسدة»، دون أصول ودون موارد وميزانيات. ولا يتورط البرنامج كثيراً بالأرقام والآليات وطرق التنفيذ، بل يقدّم عرض نوايا، ويؤجل الحسيّ الأصعب إلى ما بعد الانتخابات (مؤتمر العيش الكريم والحوار الاقتصادي والاجتماعي). لكنه عرض بيع هواء بداية من «حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية واسترجاع مزارع شبعا، وذلك عبر تنفيذ القرار الدولي 1701، بكل مندرجاته» (بند 1). ولا ريب أن سلطة آذار ستصدر بياناً شديد اللهجة بمطالبة إسرائيل بالكف عن اعتداءاتها، أو مناشدة «المجتمع الدولي» الضغط على إسرائيل، إذا بقيت «جهود السلاح متعثرة»، كما هي «متعثرة» منذ نصف عمر دولة إسرائيل، وإلا التفاهم مع «المجتمع الدولي» على «نبذ العنف» والتفاوض بين «الديموقراطيات التي لا تلجأ إلى العنف أبداً»، وإطلاق عجلة «الاستقرار والازدهار» على غرار المنجزات المهولة التي تحققت في مصر والأردن في «تبادل المصالح»، وخاصة في بيع الغاز المصري واتفاقية الغويز «والشراكة الحرة» مع أوروبا والولايات المتحدة، فمياه لبنان تذهب هدراً إلى البحر.
والحال، كيفما قلبنا «قضايا» 14 آذار في 14 «قضية» انتخابية، من «حماية لبنان» إلى «توسيع مشاركة المرأة»، وصولاً إلى البيئة قضية القضايا، في «المجتمع الدولي»، تبتهل صورة «المجتمع الدولي» في كل منها. فهذا «الشيء»، على قول الجنرال ديغول، الذي يسمى «المجتمع الدولي» هو أصل العلة وفصلها. بينه وبين دولة إسرائيل أعمق من علاقة حب عابرة أو غرام متبادل لا يؤثر فيه العذول، فبينهما الحل الجائر «للمسألة اليهودية» في أوروبا والغرب، وبينهما شراكة مصالح استراتيجية (سياسية، أمنية، اقتصادية، ثقافية)، تتولّى تنفيذها أرخص حاملة طائرات في المستعمرة العنصرية البيضاء، وذلك تعويضاً عن تخلي «عصبة الأمم» عن مستعمراتها إثر إزالة الاستعمار. فالذين يتوهمون «مصالح الغرب مع العرب»، لا يقرأون استفحال التبعية العربية بعد الهزيمة ودور إسرائيل في توطيد تبعية المصالح العربية «للمجتمع الدولي». لكن لا تكفي نصف الحقيقة في تفسير انحياز «المجتمع الدولي» وجوره، فالنصف الآخر هو في «المصالح الاستراتيجية» بينه وبين السلطات العربية. وهي شراكة في المصالح نشأت عن هزيمة السلطات أمام إسرائيل عام 67، وعن عجزها عن استكمال إزالة الاستعمار في المنطقة العربية، تمهيداً للاندماج الإقليمي وتحقيق الحد الأدنى من تبادل التبعية مع دول «المجتمع الدولي». لكن هذه التبعية المفرطة أمّنت أيضاً مصالح استراتيجية للسلطات العربية في استبدادها في الحكم، في احتكار السلطة، في امتلاك الثروة العامة (الدولة) ملكية خاصة وعائلية، في تحقيق نفوذها وثرواتها بمشاركتها «تشجيع الاستثمار» والانفتاح، و«الإنجازات الكبرى»، كما أمّنت حصتها مقابل إدارة ثقافة «نبذ العنف» وخيار استراتيجية السلام وتقديس «المجتمع الدولي».
اللافت أن برنامج 14 آذار يتضمن في كل «قضية» ثقافة «المجتمع الدولي» ولغته المتداولة في السوق: «إزالة المعوقات من أمام حركة الاستثمار وتفعيل شبكات الأمان الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً» (بند 11). وكذلك وهم «حل الدولتين» (بند 5). «ووضع حد لتدهور البيئة إطار الحياة في لبنان» (بند 14). وكل ذلك ليس وظيفة الدولة، بل هو وظيفة السلطة المستفيدة من شراكتها بالمصالح مع دول «المجتمع الدولي» وشركاته المتعدية الجنسية. فالاستثمار الإنتاجي مثلاً لا يحتاج إلى «تشجيع» بل يحتاج إلى خطة اقتصادية إنتاجية، قامت السلطة اللبنانية بعكسها في تشجيع الاستثمار العقاري والمالي أثناء مؤتمرات باريس وشراكة «التجارة الحرة» مع الاتحاد الأوروبي. وشبكات الأمان في لبنان تفيض على الفقراء حسنات وإذلالاً وتسولاً، بمشاركة هيئات «المجتمع المدني» المتمولة بكرم شديد لهذه الغاية. وفي هذا الأمر وظيفة الدولة التأهيل والتخطيط وتنظيم سوق العمل. أما البيئة المسكنية فلا تطلب تدخل السلطة للحد من التدهور، بل تطلب من الدولة تنظيم الزراعة والأرض الزراعية وعدم تلبية شروط البنك الدولي تصدير الخضار الطازجة بل التصنيع الزراعي وحفظ الأرض والمياه والغذاء من الأسمدة الكيماوية والمبيدات، المسؤولة عن 70% من تلوث البيئة. والحقيقة أن برنامج 14 آذار، لا يشذ عن ثقافة السوق المتداولة بين السلطات العربية و«المجتمع الدولي»، بل يعبّر بجرأة، يُحسد عليها، عن «توفير الانسجام بين لبنان والمجتمع الدولي وتجنب دفعه إلى مواجهة المجتمع الدولي بذرائع فئوية وبشعارات متشنجة» (بند 4). فحتى الشعارات خطر على لبنان «العبور إلى الدولة»، دولة «الحريات» و«الطبيعة التعددية ورسالة العيش المشترك». وبيت القصيد أن الطبقة السياسية في 14 آذار، بلغت من الرقي حضارة يحسدها عليها بدو السلطات العربية، لكنها لم تبلغ، لغاية في نفس يعقوب، معرفة الفرق بين السلطة المزرعة والدولة. والفرق بين التاجر المتأنق بلسانه الزرب، ورجل الدولة المسؤول عن حياة البلاد والعباد. فالدولة في لبنان (وفي أي مكان) لا تُبنى بغير المواجهة مع «المجتمع الدولي» (المواجهة غير المجابهة) دفاعاً عن حقوقها ومصالحها. وهو لا يحترم ولا يأخذ بعين الاعتبار غير الدول التي تواجه دفاعاً عن حقوقها، في معاداته وصداقته. ويتمتع بفضيلة احتقار السلطات التابعة التي تقدّم مصالحها في السلطة والتجارة، على حقوق دولها، إنما يضغط عليها لتقديسه بإذلال «وانسجامها» في تبعيتها له. وهذا الانسجام ليس حيادياً مطلقاً، بل هو شريك «المجتمع الدولي» في الاحتلال والقتل، والبؤس والخراب، مقابل حماية السلطة على حساب حقوق الدولة. والدولة في لبنان (وفي أي مكان)، لا تُبنى بغير فصل شكل الحكم عن الدولة وفصل السلطة عن الدولة. فالسلطة متحوّلة يمكن لها أن تتقاسم النفوذ بين ممثلي «الكيانات» المتعددة، القومية أو الطائفية أو الإثنية، لكن لا يمكن لها تقاسم الدولة إلا حين تكون «الدولة» مزرعة السلطة. فالنموذج السويسري الذي راج أخيراً بين هواة الحياد وتقاسم السلطة، لم يلفت انتباهم إلى أن الدولة السويسرية منفصلة عن السلطة في الحقوق والواجبات وقوانين العمل والتأهيل وأن السلطة التي يتقاسمها ممثلو القوميات لا تستطيع التدخل في شؤون الدولة. ذلك أن الدولة تخضع بطبيعتها لانقسامات وتناقضات أخرى هي تلاقي المصالح وتضاربها بين الفئات الاجتماعية (عمال، مزارعون، صناعيون، تجار، حرفيون، عاطلون عن العمل). وأن فضاء تلاقي المصالح وتناقضها هو الذي يحدّد سياسات الدولة الخارجية والدفاعية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وعليه تُبنى القوانين والحقوق والتعليم والصحة. وكذلك الاندماج الإقليمي والعلاقة «بالمجتمع الدولي».
وبمنأى عن كل هذه التعقيدات «الشائكة» في مسؤولية رجال الدولة، «يستقرب» برنامج 14 آذار بيع الهواء والمحافظة على مزرعة السلطة في تعدد «كياناتها» وعيشها المشترك ثم يعبر بها إلى أن تكون «مختبراً عالمياً لحوار الحضارات»، تنعّم فيه اللبنانيون، منذ أن احتلت الطبقة السياسية في السلطة، الدولة وألحقتها بمصالحها. هو برنامج العبور من مزرعة إلى مزرعة نأمل ألا تأتي قوى 8 آذار بمثله، عار عليها إذا فعلت، عظيم.
* كاتب لبناني