هاني نعيم«متى نصل إلى المخيّم؟» سألت الرجل الذي يقودني إلى مخيّم اليرموك، جنوب دمشق، الذي يُعدّ من أكبر التجمعات الفلسطينية في العالم، خارج فلسطين. لم يتعجّب كثيراً، لكونها زيارتي الأولى ، وقال «نحن في المخيّم منذ 5 دقائق»! فجأة، استيقظت الذاكرة وصورها عن مخيّمات لبنان. وبدأت المقارنات. هنا، شوارع واسعة، تعبرها السيارات، وباصات النقل العام، وحتى «الفانات» الصغيرة. الأبنية لا تختلف عن سائر أبنية دمشق. ظروف الحياة وعناصرها موجودة في اليرموك كأي منطقة ومدينة أخرى في سوريا.
■ ■ ■
الصخب سمة عامّة للمخيّم. يبدأ منذ الصباح الباكر، ولا يخمد حتى ساعة متأخرة من الليل. وخصوصاً أن فيه سوقاً شعبياً دائماً، ومطاعم لا تغلق أبوابها، حتّى أن الكثير من روّاد السهر السوريين يلجأون لمطاعم المخيّم ليشبعوا جوعهم الكافر، حسب دليلي العتيق. يروي هذا الأربعيني، عن لبنانيين قولهم إنّهم لا يعرفون عن مخيم اليرموك أو دمشق، سوى سوق تبضّعوا منه يوماً. ولم يكن ذلك السوق إلا أحد أسواق اليرموك المشهورة. تفسّر القصة اختلاف صورة المخيم هنا عن صورة المخيمات في لبنان.
رواية أخرى. أحد أطفال اللاجئين في لبنان وأثناء زيارته لمخيم اليرموك، لم يصدّق أنه في «المخيم» رغم محاولة أهله إقناعه. تعوّد الولد على مخيّم شاتيلا بأزقّته الصغيرة والضيقة. لا بنايات، لا كهرباء، ولا شبكة صرف صحّي تليق بالحد الأدنى من الحياة. هناك يلهو في فسحة هوائها الملوّث، وينام في بيوت، تحتوي حداً أقصى على غرفتين. أما هنا، فالأزقة واسعة، تكفي ليلعب كرة القدم بـ«رياحة»، بعيداً عن مجرى الصرف الصحّي المكشوف. كما يمكنه الحصول على بعض الخصوصيّة في غرفة خاصة به، لا يشاركه بها أحد.
■ ■ ■
الرجل الذي رافقني محام. أخبرني عن عدد المحامين الفلسطينيين في دمشق البالغ عددهم حوالى 200 محام. وعن عدد الأطباء الذي يبلغ في سوريا بحدود 2000 طبيب فلسطيني. هؤلاء في لبنان ممنوعون من العمل، إضافة إلى 68 مهنة أخرى، خوفاً من «الوحش الفلسطيني»، وتخويف الطوائف بعضها لبعض بـ«التوطين». أخبرني أيضاً عن أن المنزل الذي يقطنه هو ملكه. فهو يعتبر مواطناً، له حقوقه وواجباته الكاملة، عدا إمكان المشاركة في الحياة السياسيّة، من ترشح وانتخاب (مع أن المشاركة أو عدمها سيّان بالنسبة للوضع السوري). تذكرت لبنان. قوانينه، دستوره، جيشه وشعبه. القانون الذي يمنع على الفلسطيني أن يتملّك بيتاً. والدستور الذي يضع الفلسطيني في موضع شبهة دائمة للإرهاب. وجيشه الذي دمّر أحد مخيّماته. وشعبه الذي صمت أثناء عمليّة التدمير، أو هلل.
ولأني لبناني ، وأقطن بلاد الأرز والرسالة و«الميسد كول»، تداخلت المشاعر: هل هو خجل تجاه ذاتي ودولتي؟ هل هي غصّة أن تكون بلادي، مجتمعاً ودولةً، عنصريّة بحق هؤلاء؟ وإلى متى نستمر بخوفنا وعنصريتنا التي تمنعنا من الغوص في إنسانيتنا؟


تأثيرات جانبيّة

كي لا تختفي فلسطين من ذاكرة أهلها الغائبين عنها قسراً منذ عام 1948، أطلق هؤلاء على شوارعهم ومدارسهم ومراكزهم الاجتماعية أسماء مدنهم «الغابرة» كالناصرة وحيفا ويافا، ورموزاً مشتركة في الوعي الجماعي الفلسطيني كمثل اسم مجزرة «كفر قاسم» و«دير ياسين» الخ... اليوم، يبلغ عدد قاطني المخيّم حوالى 130 ألف لاجئ. لكنهم، برغم أن وضعهم في سوريا ممتاز قياساً بوضع إخوتهم اللاجئين في لبنان، إلا أنهم، وبما يبدو أنه نوع من تأثيرات جانبية لوجودهم في الشام، فهم يعانون ما يعانيه المواطن السوري من أنواع البطالة المقنعة. وهي بطالة، يبقى وضع أهلها وضحاياها، أفضل من تلك السافرة التي تحرمهم بالقانونن كما في لبنان، من ممارسة العديد من المهن التي هي بأغلبها مهن قد ترفع من يمارسها من جحيم الطبقة الفقيرة إلى «جنة» الطبقة الوسطى.