«الفجوة الثقافية» عبارة يرددها بعض الأولاد حين تستوقفهم ذاكرتهم عند محطات واجهوا فيها مشاكل مع أهلهم، وكأنها سبب للمصائب التي تحلّ على الولد. «الفجوة الثقافية» عبارة تُستخدم للإشارة إلى العلاقة بين الأولاد الذين يتابعون تحصيلهم العلمي، فيما أهلهم غير متعلمين. في هذه الحالة يُقصد الآباء والأمهات الذين لا يحملون شهادات جامعية ولم يُنهوا المرحلة الثانوية أو المتوسطة من التعليم المدرسي

دعاء السبلاني
«الفجوة الثقافية من وجهة نظر علم الاجتماع هي الاختلاف في رؤية الأمور وفي القيم التي تحكم السلوك وردات الفعل تجاه قضايا معينة، وهذا ما يُحدث فجوة أو فارقاً ثقافياً وعلمياً، سواء في الجيل نفسه أو بين جيلين. إذن، الفجوة الثقافية هي عدم التطابق وعدم التجانس بالقيم، بمصادر المعرفة التي تكوّن الثقافة، برؤية الأشياء والحكم عليها، وبنظرة الفرد لنفسه وللآخر وللحياة التي سيعيشها. هذه المجموعة كلها هي الثقافة، لذلك فهي قد تختلف بين جيل وآخر» هكذا يعرّف أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، الدكتور طلال عتريسي، الفجوة الثقافية.
يقول مازن ع (21 سنة): «أهلي لا يتفهمونني ولا يدركون مصلحتي، ربما لأنهم غير متعلمين. عندما كنت في المرحلة الابتدائية والمتوسطة من الدراسة، كنت أعتمد على نفسي لإتمام واجباتي المدرسية، وكنت أتشاجر مع أهلي عندما يطلبون من أحد أقربائنا مساعدتي، ما كان يشعرني بالحرج والضعف. كنت أجلس في غرفتي وأفكر كم تتغير الأمور لو تعلم أهلي»، ويتابع: «عندما أردت دخول الجامعة، اختلفت مع أبي وأمي بشأن الاختصاص الذي أريده، فهم أرادوا أن أختار الصيدلة، وأنا نادم لأنني لم أحقق حلمي بدراسة الهندسة»: يخالف عتريسي رأي مازن ويقول: «في هذه الحالة أرى أن الأهل مثقفون، فالتفكير باختصاص معين يعني امتلاك معرفة بالاختصاص، فرغم أن هؤلاء الأهل غير متعلمين، إلاّ أنهم يتوقعون أن يكون ذلك الاختصاص أفضل من غيره. لكنني لا أوافق أن يُجبر الأهل أولادهم على اختيار اختصاص معين».
يخجل سامر نهرا (14 عاماً) من الاعتراف بأن أهله غير متعلمين، ويضيف معللاً: «عندما سألني رفاقي في المدرسة إذا كان أهلي متعلمين أجبتهم بالنفي، فراحوا يسخرون وصرت ضربهم».
في بعض الحالات لا تؤدي «الفجوة الثقافية» إلى ردود فعل سلبية. فنهى قُدامي (29 عاماً) تقول: «أكملت تعليمي أنا وإخوتي ولا أذكر أنني اختلفت مع أهلي بسبب اتخاذي أي قرار. كانت أمي تساعدني قدر إمكانها في أية مسألة وتترك لي حرية اتخاذ أي خيار وأبي كان بعيداً عني معنوياً، يعمل لتعليمنا لنحقق ما لم يتمكن من تحقيقه». وهنا يؤكد عتريسي أن «ثمة احتمالاً بألّا يواجه الأولاد مشاكل مع أهلهم غير المتعلمين، فهؤلاء يرغبون بتعليم أولادهم ويبذلون جهوداً كبيرة لتحقيق ذلك».ليس الأولاد وحدهم من يشعر بالخجل، بعض الأهل (غير المتعلمين) يخجلون من أنفسهم كما في حالة علا نجيم (أم لأربعة أولاد) التي تقول: «أشعر بالخجل إذا سألني أولادي عن أمر معين، وخاصة إذا كان متعلقاً بالحاسوب، ولا أعرف بماذا أجيبهم. وفي الوقت نفسه أتعاطف معهم، أحث أولادي الكبار على مساعدة إخوتهم، وأحياناً أطلب مساعدة مدرّس خاص».
يرى عتريسي أن هذا الخجل طبيعي، «وخاصة إذا كانت الأم صغيرة في السن، فالأميون في الجيل الشاب عددهم قليل، الخجل سببه النقص في المعرفة، لكن غير المتعلمين ينسون أن الإنسان لا يعرف كل شيء، وأن حامل الشهادة الجامعية هو أيضاً يردد عبارة لا أعلم رداً على بعض الأسئلة، وهذا الأمر لا يدعو إلى الخجل». ويلفت عتريسي إلى فجوة جديدة بين الأهل والأولاد المتعلمين، إنها «الفجوة الرقمية» إذ يصعب على الأهل المتعلمين التعامل بسلاسة مع التكنولوجيات الجديدة، كما يفعل أولادهم.
سمر الزيدي (أم لثلاثة أولاد) تروي قائلة: «واجهت مشاكل كبيرة مع أولادي. يقولون لي: لا تناقشينا، أنت لست متعلمة ولا تتفهّميننا. كنت أحاول دائماً أن أتعلم منهم».
علاء شحادة (أب لثلاثة أولاد) يقلب الموازين بقوله إن أولاده لا يفهمونه ويرد السبب إلى «الثقافة التي يكتسبونها من المدارس والجامعات ولا أعرف من أين أيضاً»، ويضيف: «حين أحدثهم عن موضوع معين يحدثونني بلغة الإنترنت والإعلانات». وهنا يتحدث عتريسي عن مصادر الثقافة المعاصرة المرتبطة بالتكنولوجيا، التي تنتج طرائق جديدة في التفكير، وتسبب المشاكل بين الأهل والأولاد، ويضيف: «مصادر التفكير ليست محصورة بالأهل، فهناك مصادر تأثير تُكتسَب من الشارع ووسائل الإعلام والاتصال وغيرها، وكل ذلك يؤثر على سلوك الولد وثقافته ». ويشدد عتريسي على «أن المشاكل التي تحصل بين الأهل والأولاد لا يكون سببها دائماً عدم تعلم الأهل، لأن هناك مشاكل تنشأ بين الأهل المتعلمين والأولاد المتعلمين. لذلك يجب البحث عن جذور المشكلة ومعرفة طبيعتها، هل هي انعكاس لرغبة الولد في أن يكون متحرراً من أية سلطة، أم أنه يكره الدرس. وأحياناً تكمن المشكلة في تشدد الأهل وفرض سيطرتهم على الولد».


الخجل دائماً...

من اللافت أن العديد من الحالات التي تواجه مشاكل تنتج من الفجوة الثقافية رفضت ذكر أسمائها، والحالات المذكورة آنفاً اكتفت بالحرف الأول من الاسم، أو طالبت بتغييره. يقول عتريسي معللاً ذلك: «يرى البعض أن ما يجري بين أهلهم أو أولادهم هو مسألة تخص العائلة فقط، وليس ضرورياً أن تنشره وسائل الإعلام ويعرفه الجميع، وقد يكون مرد ذلك إلى أن العلاقات الاجتماعية في منطقتنا يطغى عليها طابع السرية، إضافةً إلى خجل الناس من المجتمع أو خوفهم من تأنيب العائلة». ينصح الدكتور طلال عتريسي في النهاية بأن يكون التفهّم متبادلاً بين الأهل والأولاد، لأن الشكوى دائماً تكون من الأولاد، فهؤلاء يقولون إن أهلهم لا يفهمونهم. ويوجه عتريسي سؤالاً للأولاد: «لماذا على الأهل فقط أن يتفهموكم؟ لماذا لا تحاولون أن تتفهموهم أيضاً؟»