ضحى شمس*في تعاونية الجيش في بيروت، تقف سيدة أمام رف الحلويات الذي تقبل الأمهات من فئة «أم العيلة» على مصنوعاته من السكاكر الرخيصة. تقف السيدة جامدة مكانها، تتفرس عن قرب بالبضائع المصفوفة: تمسك بلوح شوكولا وايفر ، تقلبه متفرسة للحظات في شيء ما، ثم ترميه في عربتها. سيدة أخرى، من عمرها، كانت ترافقها. تلتفت إليها وهي تمد يدها ببيضة من الشوكولا يقلد صانعها ماركة أجنبية شهيرة. تقول لها «الواحدة بخمسمية». تأخذ الأولى البيضة، تتفحصها ثم تقول لها: «لا، هيدي صنع الصين». تظن أن السيدة ترفض البضائع الصينية خوفاً من احتوائها على مادة الميلامين التي تسمم بها مئات الأطفال أخيراً، لولا تلك الجملة التي ألحقتها «كانت الصين بتخ..ي بغزة، أبوهم ع أبو بضاعتهم». فجأة «ترى» الأحرف التي كتبت بها أسماء ماركات السكاكر التي رمتها السيدة في عربتها: كلها باللغة التركية.
كان ذلك، قبل مشهد دافوس الشهير لرئيس الوزراء التركي الصاعد النجومية في الشارع العربي رجب طيب أردوغان، منسحباً من ندوة احتجاجاً على ما وصفه «بأكاذيب» رئيس إسرائيل شيمون بيريز، وبعد موقفه الشهير الأول، خلال الحرب على غزة، الذي سمّى الأشياء فيه بأسمائها. هكذا، اخترق الرجل بموقفيه المعطوفين على تظاهرات الشارع التركي الغاضبة لأجل فلسطين، صورة «العثملي» العابرة لذاكرات شعوب المنطقة، أيام كان الأتراك حكاماً لها. وهي ذاكرة سلبية مثقلة بقصص السفر برلك، أي تجنيد الناس في عمل السخرة لحروب كانت الدولة العثمانية تخوضها ضد الغرب. عشق الناس أردوغان في هذا المشهد غير المألوف لرجل بمنصبه الرفيع، لا تربطه، من حيث المبدأ، صلة بديهية بقضية العرب المركزية، فلسطين. بدت مفاجأته السارة آتية، من مكان غير متوقع: إنسانية الرجل السياسي. وإن كان رؤساء في أميركا اللاتينية قد سبقوه إلى مواقف «أعنف»، إلا أن بعدهم عن المنطقة، وبالتالي عدم توقع الكثير من العون منهم بهذا المعنى، جعل من أردوغان مفاجأة سارة كاملة. اختار سليل «الآستانة» أسلوباً تعدّه أدبيات السياسة، عالمثالثياً، لكونه يرتبط بالشعور، لا بالحسابات الباردة التي برأيهم يجب أن تسم أسلوب السياسي. وهي لذلك تنظر إليه باستعلاء الدول «المتقدمة»، وبالتالي الباردة الشعور. لكن أردوغان، الذي لا شك لديه الكثير من الحسابات السياسية، انفعل حيث يجب الانفعال، وغضب حيث يجب الغضب، ووجّه كلاماً لا يمكن أن يحتمل تأويلاً، ثم انسحب. لم يحتمل الرجل تلك الدرجة «الصفر» من الأخلاق في السياسة، وبهذا، كان موقفه سياسياً بامتياز، أعاد للسياسة بعضاً من أخلاق تفتقر إليها اليوم بشكل مفجع.
فاجأ أردوغان الجميع بتصعيده. كان ما حصل في غزة، أكثر مما يطيق وصفه بكلمات «دبلوماسية»، فكيف بعد الاستماع إلى 23 دقيقة من الكذب وتحوير الحقائق في منتدى عالمي له ما له من قوة في التأثير. قلب أردوغان ميزة «الندوة» التي كان الإسرائيلي يستغلها بكل راحة بال، وهي تركيز الأضواء الإعلامية عليها. هكذا، أصبحت مداخلته نوعاً من «فضيحة بجلاجل» نقلتها كل وسائل الإعلام، فكان لوقعها، ما كان لوقع حذاء الزيدي على بوش.. والمالكي، وهو هنا في الرواية أخونا في العروبة عمرو موسى.
أتيح لمن شاهد التقرير المتلفز للندوة، أن يرى المفاجأة على وجه بيريز وهو يتلقى «اللكمات» التي كانت تترجم له فورياً. فقد اعتاد الرجل، على مقعد الضيف الملك: لا أحد لديه الإرادة أو الشجاعة، لمعاكسة كلامه. يتقن اللعبة الإعلامية، ويعرف من أين تؤكل كتف عقدة الذنب الأوروبية تجاهه كرمز ليهود اضهدهم الأوروبيون في المحرقة، وأرضوهم بفلسطين. وبما أن رئيس الوزراء التركي ليس عربياً، تصبح المفاجأة بما فعله كبيرة لدرجة البكاء تأثراً. تحاول أن تفهم تصرف أردوغان الذي أخرج فلسطين من ضيق «عروبتها» بها، إلى .. ماذا؟ تتنبه إلى أن فلسطين «الإسلامية» أصبحت أقوى من فلسطين العربية. من إيران إلى تركيا إلى إندونيسيا الخ..
ولن يكون غريباً، بعد اليوم، أن تصادف العديد من المواطنين الذين اكتشفوا «تسييس الاستهلاك» على غرار السيدة أعلاه، ليس بمعنى مقاطعة بضائع العدو فقط، بل بوجهه الإيجابي الآخر، أي الحث على استهلاك بضائع البلد الصديق. وهو سلاح ماضٍ بيد شعوب سئمت من انتهازية حكامها بحجة أن السياسة هي هكذا، وهي تهفو بكل روحها إلى بعض من أخلاق سياسيي «الباب العالي».
* من أسرة الأخبار