انتهت الحرب على غزة لكن آثارها لا تزال ماثلة في عيون أطفال المخيمات الفلسطينية في لبنان. عاد الفلسطينيون إلى مقاعدهم على أبواب الامتحانات، كيف أثر العدوان في تحضيراتهم للاستحقاق؟
قاسم س. قاسم ـ خالد الغربي
يخرج محمد شبايطة (9 سنوات) حاملاً نقوده من مدرسة البيرة التابعة لوكالة الأونروا الواقعة على الباب الخارجي لمخيم البرج. يركض وصديقه بسرعة خارج البوابة الزرقاء كي يصلا إلى بائع جوّال. يرمي شبايطة النرد فيفوز بثلاث حبّات «كرابيش». تشدك شقاوته فتقترب منه لتسأل عن أحوال الدراسة بعد الحرب على غزة فيخبرك أنّه لا يزال يتابع النشرات الإخبارية التي تتحدث عن الفلسطينيين «وإيش عم يصير بالقطاع». على رغم صغر سنه، يكشف حديثه السياسي ميول أهله والبيئة والفصيل الذي ينتمي إليه. يتحدث شبايطة الذي يتجمع حوله أصدقاؤه عن «محاولة عباس (الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته) سرقة مصاري أهل غزة»، معلقاً بالقول: «لم يعد رئيس فلسطين شو بدو بالمصاري؟». يستطرد شبايطة في الحديث في السياسة ولدى سؤاله عن درسه يبتسم «صار في كسر دروس». تصدمك معرفته بالتفاصيل التي تفوق مستوى وعي الطفل الطبيعي. لا ينكر الطفل أنه بعد الحرب على غزة لم يعد يكترث كثيراً للدرس «لأنه أصبح شي بايخ».
الموت الذي رآه شبايطة على شاشات التلفزة في مدارس الأونروا جعله يرفض المدرسة وحين تسأله عن البديل، يأتي الجواب جاهزاً: «بشتغل ميكانيك». يركض شبايطة من دون أن يكمل جوابه معلناً بذلك انتهاء الحديث معنا.
في مدرسة الجليل في منطقة الرحاب، يتحمس طلاب المرحلة الثانوية للحديث عن غزة وإيصال الرسائل للرأي العام العربي و«حسني مبارك» خصوصاً. لكن معرفتهم بأن السؤال يتعلق بوضعهم كطلاب بعد الحرب تجعل الجميع ينفضّ ولا تبقى إلّا قلّة قليلة. تنتظر نسرين الأشوح قرب حديقة الغبيري صديقتها لتخرج من الثانوية. تروي كيف أنّ عطلة الأعياد أثّرت في المنهج الدراسي «فلم أستطع التركيز على الدرس، وكنت أفضّل أن أشاهد الأخبار». في هذا الجزء من الحديث تنضم صديقتها لينا الدربي لتشاركها الرأي، وتضيف: «تتطلب متابعة معاناة شعبنا منا توقيف دروسنا». لكن كيف سيكون تعويض ما فات من دروس؟ تقول الدربي «منسهر بالليل على الدرس مش مشكلة، لازم ننجح لأنّ الفلسطيني معروف بذكائه». تنسحب لينا ونسرين بهدوء، ويقترب شاب يعرفّ عن نفسه ربيع شحرور «أنا شاركت في كل التظاهرات يلي صارت كرمال غزة بس أؤكد لك مش رح إسقط بالامتحانات». نسأل شحرور عن مصدر هذه الثقة فيجيب «بعدني لليوم بحضر أخبار وناطر تا شوف شو رح يصير بجلعاد شاليط بس أكيد بدي إنجح».
أما في عين الحلوة، فيبدو صعباً محو صور مشاهد المجازر من ذاكرات أطفال المخيم ومخيّلاتهم. فمريم الخطيب تلميذة الروضة في مدرسة السموع التابعة لـ«الأنروا» تحمل حقيبتها المدرسية التي زيّنتها بعلم فلسطيني وفي جعبتها أسئلة يومية تربك معلميها «مس ماما قالت لي إنو اللي ماتوا بغزة بكرا بيرجعوا بس لهلق مارجعوا، هل ستعود الحرب، ومعقول يقصفوا عين الحلوة؟».
تشرح فريدة ناجية، المدرّسة في إحدى الروضات «أنّ التطورات في غزة فرضت علينا إدخال مواد غير مدرجة في البرنامج تصب في خانة الدعم النفسي لإزالة آثار العدوان ومحو الخوف الذي يسود الأطفال الفلسطينيين في لبنان». وتقول: «لا يزال عدوان غزة يؤرق المجتمع الطفولي هنا، والأمر يتجاوز تضامن الأطفال مع أترابهم إلى الخوف من أن يكونوا ضحايا المرحلة المقبلة». في مدارس المخيمات يقتنص الأطفال الفرص للتعبير عن مكنوناتهم، إذ لم تعد مادة الرسم تعكس أحلاماً مستقبلية معلّقة. استغنى مازن الميعاري في الثالث ابتدائي عن السيارة أو الدراجة الهوائية واستبدلهما بطائرة حربية تلقي من الجو حمم صواريخها باتجاه «مدرسة للأطفال»، بينما تكمل زميلته فدوى تفاصيل المشهد الذي يفضح ممارسات الإسرائيليين فترسم دبابة إسرائيلية تمر على «وردة» فيما يتصاعد الدخان من فوّهة مدفع الدبابة. وفي حصة الرياضة قسّم التلامذة أنفسهم إلى فريقين فريق غزة وفريق القرود الذي يمثل إسرائيل، وبات أطفال غزة يدكّون مرمى القرود بوابل من الأهداف (صواريخ القسام)، ولا يعرف ما إذا كان فريق «القرود» في تلك المدرسة قد ارتضى طوعاً الضعف أم أنّ فريق «غزة»، هو «كالقطاع عن جد قوي وقادر على اختراق دفاعات الخصم»، على حد تعبير محمد، أحد لاعبي الفريق.
رمت حرب غزة إذاً بثقلها على الأطفال، كما تقول الاختصاصية النفسية للأطفال، جمانة مرعي، مشيرة إلى أن مشاهداتهم للحرب حملت وجهين، الأول سلبي يتمثل بالخوف والقلق اللذين سيصاحبان بناء الشخصية العامة المستقبلية لهذا الطفل عندما يكبر، والثاني إيجابي إذ يكتشف الوجه البشع للاحتلالً. لكن مرعي تدعو إلى إضافة حصص لمعالجة الآثار النفسية الناجمة من سلبيات حرب غزة على أطفال المخيم.
تسأل مروى: «مس ما في اليوم اعتصام؟» تجيبها المعلمة بالنفي «لأن الحرب انتهت». تكتب على دفترها «إسرائيلية عم يطخوا لولاد والولاد عم يبكوا بدهن أمهن وأبوهن على شان ماتوا»، بينما تكتب وفاء: «أطفال غزة ماتوا بس بعدون بقلبنا».


إنهم أقوياء بالطائرات!

«كل ما يضربوا علينا منصير أقوى»، يقول بلال غزاوي من مدرسة الكابري في مخيم مار الياس. يروي بلال كيف جمع في رسم واحد دبابة إسرائيلية تقصف مبنى فلسطينياً وصواريخ القسام تحاول أن تسقط الطائرات الإسرائيلية. يعلّق: «أصلاً اليهود أقوياء بالطائرات وإذا نزلوا على الأرض منحرر فلسطين كلها». لا يزال بلال وأصدقاؤه يتحدثون عن غزة في قاعة الدرس والملعب «وأكتر شي أثّر فينا الأطفال اللي ما لحقوا يتهنوا ببلدهم».