استبق البروفسور جلبير الأشقر وصول باراك أوباما إلى السلطة في واشنطن، ليجري جردة حساب شاملة بحقّ إدارة جورج بوش، انطلاقاً من سؤال محوري: إلى أي مدى نحن نشهد على مرحلة أفول الإمبراطورية الأميركية. والمقابلة التي تنشرها «الأخبار» بإذن الكاتب، مقتبسة من مقابلة طويلة أجراها معه شارل اندريه اودري في حزيران الماضي ونُشرت في مواقع عديدة

جلبير الأشقر *

■ إنّ الكارثة التي طبعت نهاية عهد إدارة جورج بوش، تعيد النقاش بشأن وضع الولايات المتحدة، عما إن كانت قوة فائقة أو في طور الأفول. ما هي وجهة نظرك بالنسبة إلى هذا الموضوع؟

ــــ إنّ مفهوم «القوة الفائقة» الذي يُنسب إلى وزير الخارجية الفرنسي الأسبق في حكومة ليونيل جوسبين (1997ــــ2002)، هوبير فدرين، يصف صورة الولايات المتحدة كما بدت إثر حربها الأولى مع العراق عام 1991. ويرتبط هذا المفهوم بظهور «عالم أحادي القطبية» مع ما كان يصيب الاتحاد السوفياتي من شلل متزايد، ثم أفول هذا العالم، أو بالأحرى «لحظة أحادية القطبية» وفقاً للتعبير الأدق الذي استخدمه المحرر الصحافي المحافظ الجديد، الأميركي تشارلز كروتمر. مثّل عام 1991 منعطفاً، فقد كان مشحوناً بالرموز بسبب حدوث تغيرات حقيقية: ليس انهيار الاتحاد السوفياتي فحسب، ولكن أيضاً حرب الخليج الأولى التي كانت لحظة ساهمت في تشكيل صورة المرحلة التي تلت الحرب الباردة. وقد أظهرت الولايات المتحدة طبعاً، وبشكل ملموس، نفوذ القوة العسكرية التي بُنيت في عهد ريغان، من 1981 إلى 1989، وهي مرحلة بلغ فيها التوسع العسكري الذروة في تاريخ الولايات المتحدة، باستثناء سنوات الحرب. كانت حرب 1991 أيضاً، بجزء منها، تهدف إلى أن تبرهن لحلفاء الولايات المتحدة أن «إلغاء الشيوعية» لن يعني أنهم قادرون على الاستمرار من دون القوة العسكرية الأميركية، لا سيما بسبب قيام تهديدات فعلية كبيرة جداً للاستقرار العالمي. ولم يتراجع دور «الشرطي الأميركي»، بل تعزز من ناحية معينة، لأن التدخلات العسكرية، التي كانت تحصل على نطاق كامل، عُرضت على أنها مقتضى «ديموقراطي» لـ«السلام». وقد شهدت المرحلة ذاتها، تكاثر تعابير مثل «الشرطي العالمي»، في تلميح إلى أحد الأفلام الذي حقق شعبية. وقد تصدّر هذا التعبير الأخير، غلاف إحدى أهم المجلات الأسبوعية الأميركية.
استخدمت الإدارة الأميركية اجتياح الرئيس العراقي صدام حسين الكويت لكي تعود وتتمركز عسكرياً في هذه المنطقة من العالم التي اظطرت إلى الرحيل عنها في بداية الستينيات (مع إخلاء القاعدة الأميركية في الظهران في المملكة العربية السعودية تحت الضغط الذي مارسته مصر عبد الناصر). وتمركزت الولايات المتحدة مجدداً بقوة في هذه البقعة التي لا تُخفى على أحد أهميتُها الاستراتيجية بسبب النفط وقضايا جيوسياسية. واستخدمت السيطرة على هذه المنطقة حجة استراتيجية في علاقاتها مع شركائها الذين يعتمدون على نفط الشرق الأوسط، سواء أوروبا الغربية أو اليابان، كما مع خصمها المحتمل، أي الصين، التي ليست أقل اعتماداً منهم على هذا النفط.
في مثل هذا الوضع العام، ونظراً لتشابك كل هذه العوامل، برزت الولايات المتحدة كـ«قوة فائقة» أكبر بكثير من «القوة العظمى» التي مثّلتها في زمن الثنائية القطبية، لا سيما أنها شهدت مرحلتين متتاليتين قياسيتين من ناحية التوسع الاقتصادي، الأولى في عهد ريغان، من منظور المدة، ومجدداً باستثناء سنوات الحرب، ومن ثم في عهد كلينتون، حين سجلت رقماً قياسياً بالمطلق. ومن زاوية معينة، رُبح الرهان الاقتصادي الذي أطلق في عهد ريغان، وكان حتماً رهاناً محفوفاً بالمخاطر، لدرجة أن البعض تنبّأ بحدوث المرحلة الأخيرة من الأفول الأميركي في خلال هذه الحقبة. يجب ألا يُنسى أن الكتاب الأساسي الذي تناول الأفول الأميركي وحقق أكبر نسبة مبيعات نُشر عام 1987، في أواسط عهد ريغان، هو كتاب بول كينيدي «صعود القوى العظمى وسقوطها» (The Rise and Fall of the Great Powers).
وقد ارتكب هذا الكتاب خطأً فادحاً في الحكم على المعنى الفعلي للإنفاق العسكري، واستند تفسيره إلى الفكرة الآتية: الإنفاق العسكري المفرط هو، بحد ذاته، علامة على أفول الإمبراطورية الأميركية، وسيسرّع من انهيارها من خلال «الإفراط في التوسع»، أي تخطي الإمكانات المتوافرة. ولكن العكس هو الذي حصل. فقد تكوّن رهان ريغان من تركيبة تبدو غير متماسكة ظاهرياً بين الليبرالية الجديدة، بما فيها من خفوضات ضرائبية على أصحاب الثروات الأضخم، و«كينيزية عسكرية»، وهي معادلة (قابلة للنقاش) تشير إلى التوسع في القطاع العسكري من أجل التحفيز الاقتصادي. وقد أدت التركيبة التي تجمع بين خفض العائدات الضرائبية وزيادة الإنفاق العسكري إلى عجز هائل في الميزانية، رافقته عملية تعزيز لصناعة الأسلحة من خلال صفقات في البورصة. ونظراً للنتيجة النهائية، تكلل رهان ريغان بالنجاح. أما البعد الثاني الذي حمله هذا الرهان، فهو إخضاع الاتحاد السوفياتي باقتصاده ونفوذه. ويشير ريغان نفسه، في مذكراته (حياة أميركية An American Life)، إلى أن وكالة الاستخبارات الأميركية قدمت له «تقريراً موجزاً»، قبل توليه سدة الرئاسة رسمياً، ذكرت فيه كيف كان الوضع الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي يعاني حالة اختناق. واستنتج من ذلك أن السباق إلى التسلح سيزيده اختناقاً في هذه الحالة. لا يمثّل ذلك طبعاً السبب الأساسي لانهيار الاقتصاد السوفياتي، لكن الواقع الذي لا يقبل الجدل هو أن شن الحرب في أفغانستان، والتنافس في مرحلة محتدمة من السباق إلى التسلح، عجّلا كثيراً من احتضار الاتحاد السوفياتي. وبما أن الولايات المتحدة بقيت وحدها في الساحة، برزت كأنها القوة الوحيدة في عالم أحادي القطبية، برزت كـ«قوة فائقة». عكَس تعبير فدرين أيضاً المرارة الفرنسية حيال شريك أميركي امتلك حصرياً حق اتخاذ القرار في كل المسائل الأساسية التي برزت في تلك الحقبة. وكانت تلك هي الحال أيضاً حتى بالنسبة إلى القضايا التي أثرت أكثر في الاتحاد الأوروبي مباشرة، مثل إبقاء حلف الأطلسي، وتغييره من تحالف دفاعي إلى «منظمة أمنية»، أي منظمة تدخّل عسكري، وفوق كل ذلك، توسّع الحلف الأطلسي باتجاه أوروبا الشرقية، وانفتاحه على الدول الأعضاء في حلف وارسو الأسبق، حتى وصل الأمر إلى ضم جمهوريات سوفياتية سابقة في مرحلة لاحقة. وقد أثّر نبذ روسيا الجديدة، الذي نتج من هذه المخططات، في مستقبل أوروبا. ولكن واشنطن هي التي اتخذت القرار، متلاعبةً بالانقسامات الأوروبية الداخلية عند الضرورة.
أكثر من ذلك، كما سبق لي أن أشرت، تعززت قوة أميركا المتزايدة من خلال مرحلة التوسع الاقتصادي الطويلة جداً التي عرفتها في عهد كلينتون، ومن خلال إعادة إحياء الإنتاجية، واحتلال أو إعادة احتلال مواقع ريادية في حقل التكنولوجيا، وهو حقل لعب دوراً حاسماً في التوسع العسكري. فشهدنا عندها «عودة» الولايات المتحدة بعد مرحلة تراجع التصنيع التي حدثت في السبعينيات من القرن المنصرم، وأدت إلى انتشار تنبّؤات كثيرة بأفول نجمها. وقد عززت مجموعة العوامل كلها هذه صورة القوة الفائقة، التي بلغت ذروتها، على ما يتضمنه ذلك من مفارقة، في المرحلة التي تلت مباشرة 11 أيلول 2001، مع «الحرب على الإرهاب» التي أطلقها فريق عمل جورج بوش، رئيس الإدارة الأكثر غطرسة في تاريخ الولايات المتحدة. وغطرستها تشرح الهوس في هذه «اللحظة الأحادية القطبية»، في ذروتها، مع وصول أعضاء «مشروع القرن الأميركي الجديد» إلى السلطة، واحتلال المحافظين الجدد الساحة الأيديولوجية والسياسية. وقد ترجمت إدارة بوش كل ذلك من الطريقة التي قامت بها برد فعل على أحداث 11 أيلول، هذه الطريقة التي أدت إلى اجتياح أفغانستان عام 2001، ومن ثم العراق سنة 2003.

■ إذا كانت أحداث 11 أيلول قد مكّنت من تطبيق منظور الإدارة الجديدة، أوَلم تكشف الخياراتُ الفعلية التي اتخذتها، الحدودَ الكامنة في صميم هذا المنظور والتناقضات التي يتضمنها؟

ــــ مع إدارة بوش، يمكن المرء أن يقول إن فرضية «الإفراط في التوسع الإمبريالي» التي تحدث عنها بول كينيدي، المبتذلة تماماً، أثبتت صحتها. حتماً، لقد تورطت هذه الإدارة في مغامرات خطرة تجاوزت قدرة الولايات المتحدة، وفعلت ذلك على كل المستويات. فلنبدأ أولاً بالمستوى العسكري؛ إحدى نتائج حرب فيتنام كانت تكوُّن عقيدة جديدة لدى البنتاغون وبرمجة عسكرية جديدة تعتمدان على تقدم للتقنية العسكرية يقود إلى تقليص عدد الجنود، وترافق ذلك مع إلغاء التجنيد الإلزامي والجندية الاحترافية، ويعبّر كل هذا عن الرغبة في عدم الاعتماد، بعد تلك الحرب، على تجنيد الشباب الذي أثبت أنه كان عقب أخيل في فيتنام.
وبالتالي، في عهد ريغان، طوروا ما وُصف بـ«ثورة في الشؤون العسكرية»، وهو يتداخل بشكل وثيق مع الثورة التكنولوجية الأكثر عموماً (الاتصال عن بعد، والإنترنت، واللايزر، والمواد الجديدة، وشيوع استخدام الحاسوب...). ومع حرب الخليج الأولى، امتُحنت هذه الأساليب الجديدة في العالم الحقيقي، على أرض الواقع، ما أظهر لسائر العالم، في الوقت عينه، مشهداً مثيراً للإعجاب. وعلى المستوى التكنولوجي سنة 2001 أيضاً، حلت أسلحة جديدة محل قسم كبير من تلك التي استُخدمت قبل عشر سنوات ضد العراق. وقد عزّز كل ذلك رأي المجموعة المدنية في صميم إدارة بوش، حتماً أكثر من رأي الموظفين العسكريين الذين يتفوقون عليهم بامتلاكهم معرفة عملية، وهو رأي قال إن التكنولوجيا العسكرية كلية القدرة. وكان قد سبق لمادلين أولبرايت، صاحبة النظرة الأكاديمية، أن سألت المحترف العسكري الأشد حذراً، كولين باول، عندما كانت وزيرة الخارجية في الولاية الثانية من عهد بيل كلينتون: «ما الهدف من امتلاك هذه التجهيزات العسكرية الهائلة التي تتكلم عنها دوماً إذا كنا لا نستطيع استخدامها؟». وقد تمثلت هذه النزعة في الإيمان بالقوة المطلقة للتكنولوجيا العسكرية بشكل أوضح خلال اجتياح العراق. دونالد رامسفيلد، أحد الأعضاء المؤسسين لـ«مشروع القرن الأميركي الجديد»، هو الذي حسم النقاش المتعلق بعدد الجنود الضروري للسيطرة على العراق. وقد اتخذ قراره بما يعارض رغبات مجموعة مهمة في البنتاغون رأت أن مشروع السيطرة على العراق، بوجود عسكري على الأرض لا يتجاوز 150000 جندي، غير واقعي بتاتاً. فقد أكد العديد من العسكريين أن وجود ضعفي أو ثلاثة أضعاف هذا العدد من الجنود ضروري من أجل أن تتاح لهم فرصة «تأمين الاستقرار» في العراق.
بدأ التدخل العسكري الأرعن الذي نادى به فريق بوش ــــ تشيني ــــ رامسفيلد في أفغانستان في تشرين الأول 2001، ثم استمر في العراق. وأدى إلى وضع اتّصف بفرط تمدد الوسائل العسكرية التي تملكها الولايات المتحدة: ليس وسائلها التكنولوجية، بتاتاً، بل «مواردها البشرية». مهما كانت الزاوية التي يُنظر منها إلى الموضوع، كانت قدرات القوات المسلحة الأميركية، تتجاوز مستوى قدراتها في حرب فيتنام بوضوح، باستثناء نقطة واحدة قُلّل جداً من أهميتها: الجنود. فالمستوى الفعلي للجنود في القوات المسلحة الأميركية تراجع كثيراً مقارنة بما كان عليه في زمن حرب فيتنام: فسنة 1970، تجاوز العدد الإجمالي للموظفين في وزارة الدفاع 3 ملايين شخص؛ وعام 2005، كاد هذا العدد ألا يبلغ 1.4 مليون، بمن فيهم كل الموظفين المدنيين والإداريين وغيرهم. ومذاك، دُفعت الضغوطات على «الموارد البشرية» للقوات المسلحة إلى حدها الأقصى.
فوق كل ذلك، لم يعد البنتاغون يستطيع حتى أن يتدبّر أمره في تحقيق أهداف التجنيد التي حددها، على الرغم من المحفزات المتزايدة في الإغراء التي قدمها على شكل أجور وامتيازات أخرى. وهنا حتماً يكمن عقب أخيل في القوة العسكرية للولايات المتحدة. ومن الدلالات التي يحملها هذا الواقع، أنه يثبت عودة «التناذر المرتبط بحرب فيتنام»، الذي بدا كأنه قُضي عليه عام 1991، لكن مستنقع العراق أعاد إحياءه عملياً. بالإضافة إلى ذلك، بمقدار ما لا تُحقَّق أهداف التجنيد من حيث العدد، يظهر ميل إلى خفض عتبة المتطلبات من حيث النوعية، وقد أدى ذلك، من بين ما أدى إليه، إلى زيادة عدد «الأخطاء الفادحة» في العراق. فالوضع في هذا البلد، وانكشاف الأكاذيب الهائلة التي هدفت إلى تبرير شن الحرب، زادا من خطورة هذه المشاكل، لذلك كاد يستحيل، إن لم نقل كان يستحيل فعلياً، التفكير في إعادة فرض التجنيد الإلزامي؛ وبالتالي اضطرت إدارة بوش إلى إعادة اكتشاف أمر مفروغ منه: لا يستطيع المرء السيطرة على شعب من خلال التكنولوجيا العسكرية وحدها، مهما بلغ تطورها. فيتحتم عليك أولاً إرسال جنود مشاة على الأرض. وفي الجدال الذي دار بشأن اجتياح العراق، كانت الزمرة الأيديولوجية المؤلفة من محافظين جدد، وأبرز ممثليها بول وولفوفيتز، تتسلم الإدارة، فاستخدمها بوش وتشيني ورامسفيلد للتأكيد أنه من غير الضروري إرسال رجال إلى الأرض في العراق بعدد يفوق ذاك الذي كان بتصرف البنتاغون. هي الزمرة ذاتها التي روّجت للوهم الشهير القائل إن الجيش الأميركي الغازي سوف يُستقبل بالورود في العراق. وقد كان انخداع الإدارة ذاتها بهذا الخصوص حاسماً في قدرتها على تجاوز الاعتراضات التي أبداها الموظفون العسكريون. والسؤال الذي طُرح حتماً هو عما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على السيطرة على العراق على المدى الطويل: فلهذا السبب طبعاً، أُبقي صدام حسين في السلطة بعد حرب 1991، بسبب انتفاء أي تأكد من قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على البلاد بعد سقوطه. أسكت فريق بوش ــــ تشيني ــــ رامسفيلد هذه الشكوك بجرعة هائلة من التفكير الغبي.
أدى هذا الخطأ الفادح في الحسابات، إلى قيام حالة المستنقع في العراق، وتحوّل العراق إلى «كارثة»، على حد تعبير زبيغنيو بريزينسكي. تغادر إدارة بوش مسرح الأحداث مخلفة وراءها ما هو حتماً النتيجة الأكثر كارثية في تاريخ الإدارات الأميركية. وسيكون أعظم فشل للسياسية الخارجية الأميركية أحد العوامل المسؤولة عن هذا الوضع. فبعدما وصلت هذه الإدارة إلى السلطة في مرحلة كانت فيها «القوة الفائقة» في ذروتها وتتمتع برأسمال كبير، ها هي تتركها بعدما ألقت بالولايات المتحدة في حالة إفلاس. وليس التعبير هنا مجازياً فقط.

■ من خلال قراءة تغطية الصحف الأميركية، يظهر قطبان. يتمثل الأول بالصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الرأسمالية الأميركية؛ والثاني هو الجهد الثابت لتوسيع القدرة العسكرية للولايات المتحدة. فكيف يمكن أن نفهم ترابط هذين العاملين؟

ــــ حتماً، إن النفقات العسكرية للولايات المتحدة هائلة، إذ بلغت، بالقيمة الحقيقية للدولار، أعلى مستوى لها منذ الحرب العالمية الثانية. وقد تجاوزت حتى نفقات مرحلة الحرب الكورية (1950ــــ1953). وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تملك هامش تحرك واسعاً نسبياً، أي مقارنة بالناتج المحلي العام. فبنسبة نحو 5 في المئة من الناتج المحلي العام، تبقى النفقات العسكرية الأميركية بعيدة عن الذروة التي بلغتها في خلال الحربَين، الكورية حين بلغت 15 في المئة، والفيتنامية حيث وصلت إلى 9 في المئة. حتى أن الإنفاق العسكري يبقى أقل من نسبة الـ7 في المئة التي بلغت في «زمن السلم» في عهد ريغان سنة 1985.
بيد أن القضية الأكثر إثارة للمخاوف، تبقى مسألة العجز المزدوج التي برزت من جديد بعد سدّ العجز في الميزانية الفدرالية في عهد كلينتون، وقد كان إجراءً ضرورياً على جدول أعمال هذا الرئيس بعد تكدّس الديون الكبير في عهد ريغان. فها هي الولايات المتحدة تغرق مجدداً تحت عجزَين، ليس أخطرهما عجز الميزانية، فقد كان في عهد ريغان أسوأ مما هو عليه الآن، بقدر ما هو عجز ميزان المدفوعات / ميزان المعاملات التجارية الذي حطّم كل الأرقام القياسية. من هذه الزاوية، نواجه صورة تشبه، بعد أن تُدخل إليها التعديلات الضرورية، صورة الأزمة الخطيرة الأولى المرتبطة بالأفول الأميركي في مرحلة حرب فيتنام التي كانت قد كشفت عن حالة إفراط في التوسع، وفق إشارات تلك الحقبة، إذ ساهمت كلفة الحرب في مجمل الإنفاق الخارجي وفي تحول ميزان التجارة إلى الخط الأحمر، ما راح يشد ميزان المدفوعات نحو العجز. وقد نتج من ذلك نهاية نظام النقد الدولي الذي أقيم في «بريتون وودز» عام 1944، وكان قد استند إلى تعادل الذهب بالدولار بثبات، وأسعار ثابتة لصرف العملات.
واليوم، بعد أن يؤخذ بعين الاعتبار تضافر العوامل التي أشرت إليها، أعتقد أننا نعيش لحظة مشابهة من حيث الأزمة والأفول، ويمثّل تراجع الدولار إحدى إشاراتها. ستكون أولى أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، محاولة تصحيح هذا الوضع، فسيتعين عليها إصلاح الضرر الذي أُحدث، وهو أمر ليس مستحيلاً تماماً. فالولايات المتحدة تملك موارد هائلة يمكنها التصرف بها، وهي قادرة على النهوض من جديد، لا سيما أنها تستطيع استمالة موارد خارجية مهمة بسبب موقعها كبلد يحكم العالم، على المستويين النقدي (حق صك النقود) والسياسي العسكري (التسلط). ويصعب التخيل كيف يمكن إزاحة الولايات المتحدة من هذا الموقع. في الأوساط الحاكمة الأميركية، يُدرك بكل وضوح الواقع القائل إن ورقتهم الرابحة الأساسية تكمن في التفوق العسكري. وعلى عكس الذين لا يتوقفون أبداً عن قرع الناقوس إيذاناً بأفول لا نهاية له، يجب أن نكون دقيقين للغاية. فعلى الأرض، يبلغ التفوق العسكري الأميركي مستوى ارتفاع قياسياً مقارنةً بسائر العالم، وهو يمثّل المفتاح. ففي المجال العسكري، يفوق إنفاق الولايات المتحدة ما تنفقه كل الدول الأخرى مجتمعة، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ. واضح أن الإنفاق على الأسلحة لا يُترجم إلى قوة عسكرية مباشرة لأن مجموعة كاملة من الشروط الأخرى تؤثر في المعادلة. ولكن، ومن دون استبعاد عقب أخيل الذي ذكرته سابقاً، تبقى القوة الفائقة، قوة فائقة، في ما يتعلق بقدرة القتال عن بعد، وواشنطن عازمة على إعادة تثبيت دورها كدولة حاكمة حامية لأوروبا واليابان.
لقد هدفت السياسات التي رسمها بريزينسكي لإدارة كلينتون ــــ وكان توسع الحلف الأطلسي عنصراً محورياً فيها ــــ إلى إضعاف روسيا من خلال مواجهتها بخيار مفروض بين الخضوع والتخلي عن كل الطموحات الإمبراطورية أو العودة إلى وضعية معارضة النظام الغربي. وإذ تقدم واشنطن نفسها كمدافعة عن الدول الواقعة على حدود روسيا، تعيد تثبيت دورها كحامية لـ«الديموقراطية» و«الحرية»، وكان ذلك هو الأساس المنطقي الأيديولوجي الذي اعتمدته في خلال الحرب الباردة.
بالإضافة إلى ذلك، ترى الولايات المتحدة نفسها متراساً بوجه قوة الصين المتنامية التي تقلق اليابان. وبالتالي، من منظور التحالفات التي تكوّنت في خلال الحرب الباردة وتوسعت منذ نهايتها، لا تزال واشنطن تثبت نفسها في موقع الحاكم الفعلي المطلق. وهذا ما ستحاول الإدارات المستقبلية استغلاله من جديد، من خلال محاولة صقل «القوة الناعمة» المهيمِنة للولايات المتحدة التي تضررت كثيراً في عهد بوش الرئاسي.
في رأيي، إن إصلاح الضرر الذي تسببت به إدارة بوش يمكن أن يسهّله مثل هذا التغيير الجذري والعميق في الوجه، تغيير صورة الولايات المتحدة. فـ«إمبريالية ذات وجه أسود وإنساني» من شأنها أن تصلح صورة الولايات المتحدة التي فقدت الكثير من بريقها بسبب الكارثة التي ألحقتها بها إدارة بوش. يبدو واضحاً أن مصالح الإمبريالية الأميركية تجد ضمانتها الأولى والأخيرة في التفوق العسكري، ولكن عملية شدّ وجه سياسية أيديولوجية هي متمم ضروري ومفيد.
ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية
* بروفسور في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن