20 سجناً في لبنان تحشر فيها الدولة أكثر من 5000 سجين تحرمهم من أبسط الحاجات الإنسانية. يعيشون أشهراً وسنين في عالم من الرعب والتهديد والعنف. يصرخون، يثورون على الواقع عبر حرق فرشهم وتشطيب أجسادهم والتهديد بقتل الرهائن. أُنذرت الدولة أخيراً من انفجار غضبهم، فهل ستتحمّل المسؤولية؟
عمر نشّابة
5000 إنسان تحشرهم الدولة في سجون لا يصلح بعضها لزرب الحيوانات. 5000 إنسان معظمهم موقوفون أبرياء، حتى تثبت إدانتهم أمام المحكمة، يتعرّضون للذلّ والهوان في عهدة الدولة. 5000 إنسان تغلي قلوبهم من الغضب خلف القضبان، ينذرون بانفجار دموي قد يقضي عليهم وعلى كلّ من حولهم، ويحوّل السجون إلى مسلخ للحم البشري. القوى الأمنية والعسكرية الرسمية قد تتمكّن حينها من كمّ الأفواه وسدّ منافذ السجن وقمع غضب نزلائه بالقوّة. لكنّ ذلك لا يدوم طويلاً، وقد يُدخل البلاد في مسلسل الثأر ويُعرّض المؤسسات إلى مزيد من الانهيار.
تعاني السجون اكتظاظاً خانقاً: يسجن فيها أكثر من 5000 شخص، بينما لا تتعدّى قدرتها الاستيعابية القصوى 2000 سجين. كما أن القوى الأمنية المكلّفة إدارتها وحمايتها ليست مؤهّلة لتلك المهمة. فلم يخضع ضباط وعناصر قوى الأمن الداخلي لدورات تدريبية متخصّصة في التعامل مع السجناء ولصدّ أيّ تمرّد قد يقومون به، ولا يوجد دليل طوارئ خاص في السجن كما هي الحال في المؤسسات العقابية المتطوّرة.
وزير الداخلية المحامي زياد بارود يسعى لتحسين أوضاع السجناء عبر العمل على نقلها إلى سلطة وزارة العدل بحيث يعمل على إنشاء مؤسسة متخصصة لإدارتها. لكن العملية تتطلّب جهوداً جدّية من مجلس الوزراء الذي لا يضع هذه المشكلة في خانة الأولويات.

أقفاص يُزرب فيها البشر

تحرم الدولة السجناء من حاجاتهم الأساسية بحسب أدنى المعايير الإنسانية. إذ يُحرم السجناء:
1ـــــ الكرامة: يتعامل رجال قوى الأمن مع السجناء بشدّة، كأنهم أقلّ قيمة إنسانية من باقي البشر، ويسود اقتناع بين الضباط والعسكريين بأن السجين لا يستحقّ الاحترام، وأنه يمثّل أسوأ ما في المجتمع. يدفع ذلك إلى إذلال السجناء وسبّهم وضربهم بطريقة مهينة أكثر من كونها مؤلمة. فـ«السحسوح» على الرقبة مثلاً يتذوّقه أغلب السجناء «غير المدعومين».
2ـــــ الأمن: يعيّن آمر السجن من خارج القانون عدداً من «الشواويش»، وهم سجناء نافذون يختارهم لأنهم حائزون «واسطة» ضابط أو وزير أو نائب أو زعيم سياسي أو مرجعية روحية، أو لأنهم قادرون على التجسّس على السجناء الآخرين لمصلحة قوى الأمن. ويتحوّل «الشاويش» إلى زعيم شبه مطلق يقرّر مصير السجناء الآخرين، فيسيطر على حياة الذين يتشارك معهم الغرفة والطابق، فيحرمهم من أملاكهم الخاصة ويهدّدهم بالضرب والتعذيب كما يجبرهم على القيام بخدمات لمصلحته. وغالباً ما يقوم الشاويش بترهيب «غير المدعومين» وإيذائهم جسدياً ونفسياً.
أما فيما يخصّ قوى الأمن، فضباطها وعناصرها ليسوا مؤهّلين لإدارة المؤسسات العقابية، وبالتالي فهم يلجأون إلى أساليب غير قانونية في ضبط أمن السجون المكتظة، ويعتبرون أن تعيينهم في مراكزهم هو بمثابة عقوبة يتعرّضون لها لعدم حيازتهم «واسطة» تعيّنهم في مراكز جذّابة، مثل الشرطة القضائية أو فرع المعلومات، فيزيد ذلك من تعاملهم القاسي مع السجناء عموماً.
3ـــــ الصحّة: العلاج الطبّي متوافر إلى حدّ ما في السجن المركزي في رومية وغيره من السجون، إلا أن ظروف السجن تؤثر سلباً على صحّة السجناء الجسدية والنفسية. حيث يحرم السجناء من التدفئة ومن التهوئة المناسبة ومن النور الطبيعي في أكثر السجون اللبنانية. وفي بعض السجون زنازين انفرادية مخالفة للمعايير القانونية.
4ـــــ العمل والتعليم: تغيب برامج العمل والتعليم والرياضة وإعادة التأهيل عن معظم السجون اللبنانية. وبينما تقوم بعض الجمعيات الأهلية بجهد كبير لإدخال بعض البرامج إلى بعض السجون الكبيرة، تُهمل الدولة واجباتها في هذا الإطار، فليس هناك برنامج واحد تموّله المؤسسات الرسمية وتديره.

العدل «بالمقلوب»

تصدر مئات الأحكام بالحبس خمس سنوات أو ثلاث أو سنة، ويخرج السجين في اليوم التالي إلى الحرية، لا لأنه بريء أو لأنه «مدعوم»، بل لأنه قضى مدة العقوبة قبل صدور الحكم. فالعديد من السجناء الموقوفين يقضون سنوات قبل صدور الحكم بحقّهم، ويمثّل ذلك تجاوزاً لافتاً لمفهوم تحقيق العدالة. إذ إن الموقوف بريء حتى تثبت إدانته، ولا يجوز أن يخضع لإجراءات عقابية أو إصلاحية قبل أن يثبت ضلوعه بجريمة. أما المحكوم، فيفترض أن يخضع للإصلاح. في لبنان العدالة «بالمقلوب».

آلام تنفجر غضباً

خلال الأشهر القليلة الماضية برز إنذاران عنيفان؛ أحدهما في السجن المركزي في رومية في 24 نيسان 2008، والثاني في 25 كانون الثاني 2009، نجحت خلالهما مساعي التفاوض بصعوبة في إطلاق الرهائن وإعادة الهدوء. غير أن «الجرة» قد لا تسلم في المرّة الثالثة، ومهما تكن مطالب السجناء، يبقَ موقف الدولة (من خلال مفاوض أو بدونه) ضعيفاً، لأنها تخالف أدنى المعايير الإنسانية في التعامل مع السجناء.

ربيع رومية تكرّر: 7 رهائن

علا الصراخ وأُشعلت النيران في الفرش والأثاث، وتصاعد الدخان من مبنى السجن، واحتجز السجناء عنصرين أمنيين، وهدّدوا بذبحهم بواسطة آلات حادة صنعوها بأيديهم. ثم انتقلوا إلى الطبقة السفلية حيث احتجزوا ثلاثة حرّاس إضافيين، وحصلوا على مفاتيح بوابات المبنى الداخلية. كما تمكّن المتمردون من السيطرة على الطبقتين الثانية والثالثة، حيث احتجزوا عنصرين آخرين من قوى الأمن، فبلغ مجموع الرهائن سبعاً، من بينهم رتيبان.
كانت عملية التمرّد قد انطلقت في الطبقة الأولى من المبنى الذي يشغله 950 سجيناً، بينهم 225 أجنبياً صدرت بحقّهم أحكام قضائية في جرائم متفاوتة الخطورة.
هذا التمرّد ليس الأوّل من نوعه داخل سجن رومية، وهو يعدّ الأبرز منذ نيسان 1998، حين وقع تمرّد مشابه في مبنى الموقوفين، أصيب خلاله أربعة أشخاص بجروح. وكانت مطالب المتمردين آنذاك تحسين ظروف السجن وإصدار عفو مماثل للعفو الذي صدر بحقّ السجناء الذين أدينوا بجرائم مخدرات قبل عام 1996. ودام التمرّد يومين، بمشاركة أكثر من ألف سجين، بعضهم كان مسلّحاً بقضبان حديدية وقطع زجاج.

خريف طرابلس: رهينتان

«بدنا وزير الداخلية والإعلام وعفو عام وتطبيق المادة 108، وإلا سنقتل الرهينتين» صرخ أحد السجناء من خلف الدخان الكثيف الذي كان يتصاعد من سجن القبة في طرابلس، حيث تمكّن السجناء المتمردون من احتجاز اثنين من الحراس وأضرموا النيران في بعض المقتنيات، فضلاً عن دخولهم إلى صيدلية السجن حيث استولوا على الأدوية الموجودة، كما حصلوا على قارورة غاز ومواد سائلة سريعة الاشتعال (تينر)، وتمكّنوا من الاستيلاء على هاتف ثابت داخل السجن. مطالبهم كما مطالب السجناء المتمردين قبلهم ليست بحدّ ذاتها كفيلة بدفعهم إلى التمرّد. ولو كانت ظروف السجن إنسانية بحيث إن الكرامة والصحة والأمن والعلاج والعمل متوافرة للسجين فلا داعي لتشطيب النفس واحتجاز الرهائن.


آلام تشطيب النفس

السجناء يعانون من حالة يأس وألم الى حدّ يدفعهم الى إيقاع الأذى بأجسادهم فحياتهم بالنسبة إليهم لم يعد لها على ما يبدو معنى أو جدوى، إذ يقدم السجناء خلال أعمال الشغب على تشطيب أجسادهم بأدوات حادة ويكتبون أحياناً مطالبهم بدمائهم على الشراشف وعلى جدران السجن. فخلال تمرّد سجن رومية عام 1998 حطّم السجناء زجاج النوافذ وشطّبوا أجسادهم أمام عدسات كاميرات الصحافة، تكرّر ذلك في حوادث الشغب العام الماضي في رومية والأسبوع الفائت في طرابلس حيث شهر بعض السجناء «مخارز» و«قطّاعات» صنعوها بأيديهم من قطع حديدية انتزعوها من أثاث السجن أو من «بكلة» حزام أو علبة سردين أو قداحة أو من قطع بورسلين من البلاط.
يلاحظ أن السجناء المشاغبين في لبنان يهدّدون بتشطيب أجسادهم بينما يمكنهم التهديد بتشطيب الرهائن الذين يحتجزونهم. كذلك يلاحظ أن بعض السجناء يبتلعون أدوات حادة وشفرات حلاقة للتعبير عن إصرارهم على تحقيق مطالبهم.