معتصم حمادة *مع انعقاد قمة الدوحة، وظهور الانقسام العربي جلياً، خرج البعض بنظرية، روّجت لها بعض الفضائيات من موقع منحاز لطرف عربي دون آخر، ترى في الانقسام العربي «نعمة» و«رحمة»، وذريعتها في ذلك أن الانقسام من شأنه أن يحدث فرزاً في الحالة العربية، وأن يرسم الحدود بين المواقف المختلفة، بحيث يمكن المواطن العربي أن يحاكم كل طرف رسمي، على حدة، على مواقفه من القضايا القومية، ومن بينها، وفي مقدمها، قضية فلسطين والصراع مع إسرائيل.
مثل هذا الرأي سمعنا شبيهاً له، في 14/6/2007، وما بعد هذا التاريخ، في الحالة الفلسطينية حين لجأت «حماس» إلى حسم خلافاتها مع السلطة بقوة السلاح. البعض رأى أن هذا الحسم يستهدف «تيار دايتون» في السلطة، ولا يستهدف كل مكونات السلطة، إلى أن تبين أن الخلاف شمل كل مناحي العلاقات بين السلطة (ومعها فتح) و«حماس»، وأنه انعكس، بالتالي على مجمل الحالة الفلسطينية. ومع ذلك، بقي هناك من ينظر إلى سياسة الحسم العسكري، وسياسة الانقسام باعتبارها سياسة صحيحة.
ومع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اشتعلت، إلى جانب نيران الحرب، نيران حرب إعلامية، ليس ضد إسرائيل، بل بين الأطراف الفلسطينية نفسها. وحصل تراشق، ليس بالمدافع، بل بالاتهامات، وهي اتهامات وصلت حدّ التخوين إلى أن تدخلت الضغوط الضرورية، ونجحت في استصدار قرار من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يمنع بموجبه الحملات الإعلامية، مع التأكيد أن كل الجهود يجب أن تنصب لمصلحة الصمود في غزة ودعم الشعب الفلسطيني والمقاومة في مجابهة العدوان الإسرائيلي.
ومع ذلك، فإن بعض الأفراد، ممن يعتاشون على الانقسام، بقي يبحث عن المنافذ، هنا وهناك، ليستعيد أجواء الحرب الإعلامية، حتى إن بعض المتحدثين، لدى الطرفين (في غزة ورام الله معاً)، خاض حربه ضد الطرف الفلسطيني الآخر، إعلامياً، «ببراعة» فقدها في «حربه» الإعلامية المفترضة ضد العدوان الإسرائيلي.
ولو عدنا إلى إحصاء تصريحات هذا المتحدث أو ذاك، ومن شملت، هل الطرف الفلسطيني الآخر، أم العدوان الإسرائيلي، لوقفنا أمام نتائج هي أشبه بالفضيحة السياسية. الأخطر من هذا (نعم الأخطر من هذا) أن البعض بدأ ينظر للانقسام باعتباره حالة إيجابية، وينظّر ضد الدعوات للحوار الوطني ولسان حاله يقول: كيف يدور الحوار بين المقاومة من جهة، وبين أعداء المقاومة، وعملاء الاحتلال من جهة أخرى؟ وكان مثل هذا السؤال (غير البريء تماماً) ومثل هذه التوصيفات (الخاطئة تماماً) يمهدان لإدامة الانقسام، ويسهمان في إضعاف الحالة الفلسطينية عبر بث الإحباط في النفوس، والترويج أن الحالة الفلسطينية في انقسامها وصلت إلى الطريق المسدود، وأن الانهيار السياسي لا يهدّد طرفاً دون غيره. ويجب الاعتراف بأن مثل هذه التصريحات كانت أكثر خطراً على إرادة الصمود، من العدوان الإسرائيلي نفسه، وخاصة أن الشعب الفلسطيني، منذ أن انطلقت ثورته، وهو متمسك بالوحدة الوطنية، ويدين الانقسام، لوعيه الصائب أن الوحدة هي عنصر القوة الأول في مواجهة الاحتلال والاستيطان وأعداء القضية الفلسطينية. وللتأكيد على أن الوحدة الداخلية هي عنصر قوة في صفوف الشعب الفلسطيني، نلاحظ كيف أن أطراف المقاومة وهي تصدّ العدوان الإسرائيلي على القطاع، حرصت على التأكيد للرأي العام أنها تقاتل بأذرعتها العسكرية المختلفة في خندق واحد، وفي إطار من التنسيق العسكري المتكامل. ونلاحظ كذلك كيف أن المواطن الفلسطيني، داخل القطاع وخارجه، كان يستقبل بفرح أنباء الأعمال القتالية المشتركة للمجموعات العسكرية الفلسطينية المنتمية إلى أكثر من جناح.
إذن الوحدة الداخلية الفلسطينية لا بديل عنها، وكل النظريات والتوصيفات المبررة للانقسام سقطت عند أقدام قائليها فور أن تلفّظوا بها.
ثم دعونا نلاحظ كيف أن الفصائل الفلسطينية المعنية، وهي تدرك المزاج الجماهيري العام، دعت، أثناء القتال، وبعده، إلى الحوار الوطني الشامل، وإلى ضرورة إنهاء الانقسام، وضرورة استعادة الوحدة الداخلية.
هذا ما ورد على لسان الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمه في جولته في لبنان، وعلى لسان قيادة الجبهة في قطاع غزة، وفي رام الله وعلى لسان الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه في قمة الكويت، وعلى لسان رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنية في كلمته المسجلة في مدينة غزة، وكذلك على لسان ممثلي الفصائل الأخرى، في تصريحاتها المختلفة.
وما يجري تحضيره، إسرائيلياً وأميركياً، لاستثمار العدوان، على الصعيد السياسي، بالتعاون مع الحلف الأطلسي، يؤكد أن المراهنات المعادية إنما تتكلل، في جزء غير يسير منها على الانقسام الفلسطيني (وفي السياق على الانقسام العربي) الأمر الذي يعني أن التصدي لهذه المراهنات وإجهاضها، يكون أولاً باستعادة الوحدة الداخلية الفلسطينية.
قد يبدو لبعض الأطراف أن الانقسام يوفر لها نفوذاً ومكاسب أفضل مما توفره الوحدة الداخلية. لكن مثل هذا الأمر ليس إلا وهماً، لأن سلبيات الانقسام وخسائره، على الحالة العامة، وعلى الأطراف الفلسطينية، كلاً على حدة، تفوق المكاسب الفئوية، وخاصة عندما تتعرض الحالة الفلسطينية كلها لخطر خارجي لا يميز بين طرف وآخر.
الأمر نفسه ينطبق على الحالة العربية. صحيح أن المزاج الشعبي العربي نظر إلى قمة الدوحة على أنها خطوة في خدمة المسألة القومية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية. لكن الصحيح أيضاً أن المزاج الشعبي العربي نظر إلى قمة الدوحة نظرة مزدوجة، الجانب الأول فيها هو ما ذكرناه، والجانب الثاني منها هو تخوفه من أن تذهب الحالة العربية بعيداً في الانقسام وأن يتكرس الانقسام العربي هذا. لكن المزاج العربي بدا شديد الارتياح وهو يتابع أنباء وصول الزعماء العرب إلى الكويت لحضور القمة الاقتصادية. وقد تعمّق ارتياحه وهو يتابع أنباء المصالحة العربية على هامش أعمال القمة. إذ رغم الانتقادات الحادة الموجهة إلى النظام الرسمي العربي ودوره في المواجهة مع العدو، ودعمه للمقاومة الفلسطينية وتصديه للعدوان، فإن المواطن العربي يدرك جيداً أن التنسيق العربي هو الطريق لتعزيز دور النظام العربي الرسمي، وخاصة إذ ما التقت العواصم العربية ذات النفوذ (الرياض ـــ القاهرة ـــ دمشق ـــ عمان) على موقف موحد، وقد اعتاد المواطن العربي أن يقرأ في هذا اللقاء (الذي أضيفت إليه الدوحة في قمة الكويت) عنصر قوة في الحالة العربية: قوة سياسية، وقوة اقتصادية ومالية.
وهكذا يمكن القول إن نظرية «الانقسام العربي رحمة ونعمة» سقطت سريعاً في الامتحان العملي، وحلت محلها تلك النظرية التي تدعو إلى التمسك بالتضامن العربي بديلاً للانقسام والتشرذم، والنظرية التي تدعو إلى توسيع إطار التضامن العربي وتطويره ليأخذ أشكالاً متقدمة، تذكرنا بالخطوات التي خطتها أوروبا على طريق وحدتها الداخلية، وتذكرنا كذلك بالصيغة المقبلة على التطور لدول أميركا اللاتينية التي التقت على ضرورة صون مصالحها ومصالح شعوبها، وإن اقتضى الأمر الوقوف في وجه أقوى دولة في العالم، أي الولايات المتحدة الأميركية.
إذا كانت استعادة الوحدة الداخلية أمراً ضرورياً قبل العدوان، فإنها بعد العدوان باتت أمراً لا مفر منه، اذهبوا إلى مدينة غزة، وجباليا، وبيت لاهيا، وخان يونس، ورفح، وعبسان، وإلى كل مكان شمله العدوان الإسرائيلي، واسألوا الناس رأيها... وعندها خذوا قراركم!
* عضو اللجنة التنفيذية للجبهة
الديموقراطية لتحرير فلسطين