تقف مجموعة من الأطفال أمام البوابة الخارجية لمجمّع الحدث الجامعي. هم حتماً ليسوا من طلاب الجامعة اللبنانية، ويفترض أن يكونوا على مقاعد الصفوف المدرسية. ماذا يفعلون هنا؟ من أين أتوا؟ تكثر الأسئلة حتى يتقدّم منك أحدهم حاملاً بيده علكة ويخاطبك مبتسماً: «الله يخليك اشتريها»
محمد محسن
رغم أنّ علب العلكة التي يبيعونها تحجب شكل أياديهم وتجاعيدها المبكرة، يصرّ جزء كبير من الطلاب على إطلاق تسمية «متسولين» على الأطفال المتجولين أمام البوابة الخارجية لمجمّع الحدث الجامعي. يتقدّم البائع الصغير من الطالب، يتوسلّه لشراء العلكة، يستعمل عبارات تقنع بعض الطلاب، «الله ينجحك، اشتري منّي».
يكفي أن تمكث ساعة من الوقت، في أي بقعةٍ مواجهة لمدخل المجمّع، لترصد تحركات هؤلاء الأطفال. ينتشرون بطريقة مدروسة، فهم لا يجتمعون في زاوية واحدة، بل يتوزعون على كل الزوايا المحيطة بالبوابة الخارجية، ومن لا يحالفه الحظ في إقناع الطالب بشراء العلكة، يترك الدور لغيره في إقناع طالبةٍ وصلت لتوّها إلى الجامعة.
نقترب منهم، نشتري العلكة طواعيةً بهدف فتح مجال الحديث معهم. نسأل: «من أين أنت؟ لا جواب، ما اسمك؟ لا جدوى، لكن مع محاولة للهروب بسرعة هذه المرة. تدعونا حاجتنا إلى أجوبتهم لتقمّص دورهم، فنتبعهم كما يتبعون زبائنهم. يتذمر أحدهم ويرفع صوته: «شو بدك؟ ما أخذت العلكة؟ حل عنّا». كانت الصدمة متوقعة، والكلام الذي يسوّقون به علكتهم، تحوّل إلى عباراتٍ عدائية. عبارات خرجت من أطفالٍ تحتل البراءة وجوههم رغم شحوبها، لكنّها حلّ وحيد للنجاة من المجهول الذي يسأل.
حين همّ أحدهم بالهرب، فقد «فردة» حذائه اليسرى، فاضطر لاستعادتها، وكانت فرصةً لإيجاد تسوية تسمح له بالإجابة. كانت العلكة الثانية التي اشتريناها دافعاً لاطمئنانه. بدأ محمد بالإجابة، شرط أن نجلس بعيداً. «تعا نقعد غير محل حتى ما حدا يشوفنا»، يقول ويقودنا نحو زاويةٍ لا تحجب عنه سير العمل. محمد هو أكبر طفلٍ ضمن هذه المجموعة، ولا يتجاوز عمره اثني عشر عاماً. يغمغم حين نسأله عن مكان سكنه، لكنه يجيب: «منجي من الصحرا»، هنا يقصد صحراء الشويفات القريبة من منطقة حي السلّم. ينفي محمد ما يتناقله الطلاب عن الباص الذي يحضر هؤلاء الأطفال كلّ صباح، ويشدّد على أنّه يأتي سيراً على الأقدام من بيت أهله. لم تكن إجابات محمد مختلفة عن إجابات «المتسولين» الصغار في المناطق الأخرى، وهو يصرّ على أنّه «مش شحاد، أنا ببيع علكة وما بمد إيدي لحدا». أجوبة ذكية، يبدو أنّ محمد أتقنها جيداً. يتحدّث عن وضع عائلته «بيي مريض كتير، وأمي بتشتغل بالبيوت» وهذا ما أجبره على هذا العمل، كما يقول. لا تتجاوز غلّته اليومية ستة آلاف ليرة، وهو يقسمها، فيشتري بنصفها بضائع اليوم التالي من العلكة من دكانٍ مجاور، ونصفها «لأعود مع ربطة الخبز إلى المنزل». يكتفي محمد بهذه الإجابات، ويذهب لاستكمال عمله. تتشجع هبة حين ترى «زميلها» في العمل يتحدّث بطلاقة، فتبدي رغبتها بالمشاركة في الحديث وتسأل ببراءة: «تاخدنا عالمدرسة؟ أنا كتير بحب روح عالمدرسة». تجبرك ضحكتها على شراء العلكة مرةً ثالثة، فتستفيض هبة بحديثها، ودائماً من المكان نفسه الذي تحدّث منه محمد. نسجت ابنة السنوات العشر علاقاتٍ مع بعض الطلاب، وهي تتّكل عليهم يومياً في حصد غلّتها. تتجنّب ذكر اسم طالبةٍ جامعيّة تعلّمها اللغة العربية يومياً «شي ربع ساعة بالنهار». تقول هدى إنّها لبنانية، علماً بأنّ لهجتها لا تشير إلى ذلك. لكنّ الواضح أنّها محتاجة، وتظهر حاجتها في نبرة صوتها. هكذا تقنع هبة زبائنها «الله يخليكن اشترو علكة، بدي اشتري جاكيت»، وهي صادقة في ذلك، فالبرد جفّف شفتيها، لكنّه لم يمنع ابتسامتها البريئة من الظهور.


لا سلطة لدينا عليهم

ينفي مسؤول مجمّع الحدث الجامعي، نزيه رعيدي، علمه بوجود هؤلاء الأطفال داخل حرم المجمّع الجامعي، مشيراً إلى أنّهم يقفون خلف البوابة الخارجية، أي قرب مكان تجمّع الباصات «ونحن لا سلطة لدينا عليهم هناك». ورغم إبدائه تعاطفاً مع الوضع الإنساني للأطفال، يرفض رعيدي وجودهم داخل الجامعة، لافتاً إلى أنّ «الأمن يتعامل معهم بمسؤوليّة لعدم إيذائهم. وإذا دخلوا حرم المجمّع، فهم لا ذنب لهم، لكنّ القانون يفرض عدم وجودهم أصلاً على الطرقات».
ويؤكد رعيدي أنّ حرم الكليّات ومدخل الجامعة خاليان من هؤلاء الباعة الصغار، وإن وجدوا، فإنّ تعليمات أعطيت إلى القوى الأمنية لمنعهم من دخول المجمّع، مع أنهم «سريعون جداً في الهرب»، يقول ممازحاً.