فادية حطيطبعض الكتب حين تصدر يكون لها وقع قوي على المسارات الفردية، وأحياناً، وهنا الأكثر أهمية، على مسار فئة أو مجتمع. وتنطبق هذه المقولة على المجتمعات الغربية «القارئة» أكثر مما تنطبق على مجتمعنا العربي، حيث نادراً ما نؤرخ لموقف اجتماعي بصدور كتاب معين. كأن نقول مثلاً «بدأت هذه الظاهرة منذ صدور الكتاب الفلاني».
ولو فكرنا في مسار المرأة اللبنانية فسنجد عدداً قليلاً من الكتب التي مثّلت معالم تذكر. أنا شخصياً أستطيع أن أتوقف عند عدد قليل من الكتب التي وجّهت موقفي من قضية المرأة. أولاً الكتب الأدبية للنساء وأولها كتب غادة السمان. ومع أنني لم أعد أذكر كثيراً مواضيع كتبها، إلا أنه ترسّب في ذهني دائماً من قراءتي لها أن المرأة قادرة وبمستطاعها أن تكون مؤلفة وصاحبة قرار في الكتابة وفي الفعل وفي الحياة. وبالمثل أعرف أن العديد من النساء يربطن بين وعيهن النسائي وصدور رواية ليلى بعلبكي «أنا أحيا» في الستينيات.
أذكر أيضاً كتاب إلهام كلاب «هي تطبخ، هو يقرأ». شعّ هذا الكتاب لحظة صدوره وما زال إلى اليوم يمثّل مرجعاً رئيسياً في موضوع التمييز بين الجنسين في الكتب المدرسية. ولا شك بأن وراء إشعاعه هذا، أنه مدروس جيداً، والأهم أنه صدر في اللحظة الملائمة. في عام 1983، أي عام صدور هذا الكتاب، كانت النساء قد ضقن ذرعاً بمجتمعهن الذي يميز بينهن وبين الرجال. فهن ما عدن يعطين وقتهن كله للطبخ، وخصوصاً أن استقدام العاملات الأجنبيات كان قد بدأ يصبح ظاهرة شائعة، ونشأ عن ذلك خط فاصل ما بين الدور الأمومي والدور الخدماتي الصرف، وبات من الملحّ تسجيل الفارق بينهما. من جهة أخرى، وفي البيوت التي غابت عنها العاملات الأجنبيات، صار اعتيادياً على الأزواج أن يساعدوا في عمل البيت، ولم يعد مستساغاً منظر زوج شاب يقرأ في جريدته بينما زوجته الشابة العاملة منهمكة بالطبخ. كل ذلك كان يجب أن يسجل، وأن يأخذ عنواناً وأن يصبح قضية، وقام الكتاب بذلك.
ومنذ أكثر من عشر سنوات وكتب «باحثات» توسع معرفتي وتعمقها. ومع أنها لا تتناول دائماً موضوع المرأة، إلا أنها لا تخفي ميلها الصريح لقضاياها وتبنيها الواضح لمنظورها. إنها دعوة دائمة للتنقيب والكشف، كما لو أن لدى الباحثات قناعة بأن ثمة «كنزاً معرفياً» أنثوياً طُمس ومهمتهنّ الكشف عنه. وأحياناً يتوصلن إلى كشف شيء من ذلك الكنز، وأحياناً يشرن إلى موقعه وفي أحيان كثيرة يكتفين بالحوم حوله. وقد يخيل إليك أنهن لم ينجحن في سعيهن. ولن تكون مخطئاً لو قلت إن علميتهن أقل مما يجب، وموضوعيتهن أضيق من اللازم، وصرامتهن أكثر رخاوة من المطلوب، ويمكنك أيضاً باختصار أن تفوز بالقول إنهن لا يراعين بشدة شروط المنهج العلمي. ولكن حين تقفل كتابهن فلن يمكنك إلا أن تقول لقد طرقن باباً كان مقفلاً، أو نبشن مكاناً كان مطموراً، أو بنين عبارة كانت معدومة، أو انتشلن معنى كان مغموراً.
وثمة كتب أخرى تمثّل معالم مسارات أخرى لأشخاص آخرين. أما كيف يحدث أن ينطبع كتاب معين في مسارك فذلك حديث آخر.